الرأي

سليمان بخليلي واللغة العربية في الجزائر

بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الموافق ليوم 18 ديسمبر استضافت قناة “الشروق نيوز” خلال نشرتها المسائية الأستاذ سليمان بخليلي، الإعلامي المعروف، لمناقشته خلال بضع دقائق حول حال اللغة العربية في البلاد. وكان ذلك بعد أن قدمت القناة استطلاعا حول وضع اللغة العربية في الشارع والمدرسة وغيرها.

وقد استغربنا كثيرا ردودَ الأستاذ بخليلي على الأسئلة المطروحة وغير المطروحة، ذلك أنه أكد بأن اللغة العربية في الجزائر بخير.. وليس ذلك فحسب، بل يرى أن الجزائر أفضل من غيرها من البلدان العربية والمغاربية سواء تعلق الأمر باللغة العربية أو بالدين الإسلامي.

حول الجانب اللغوي

نحن نلاحظ فيما يخص اللغة العربية أنها لم تعرف ردّة من السلطات الرسمية في الجزائر أكثر مما عرفته منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.. في الشارع وفي الإدارات العمومية والخاصة. وهذا أمرٌ واضح للعيان لا أعتقد أن الأستاذ بخليلي يحتاج فيه إلى برهان، فهو من هو في باب الاطلاع على خبايا لا يعرفها إلا القلة القليلة مثله. ونحن، في مجال التعليم، نلاحظ لدى طلبتنا مدى تدني إلمامهم باللغة وقواعدها، فهم منتج المدرسة التي من المفترض أن تحافظ على مستوى معين للتلميذ في اللغة الرسمية على الأقل.

أما الساسة، فيكفي أن نستمع إلى مداخلاتهم في شتى المنابر الداخلية والخارجية لنرى مدى استهتار أغلبهم باللغة العربية، فالتحكم في اللغة الرسمية لا يندرج ضمن مقاييس تولي المناصب العليا، بل يخال المرء عندما يستمع إلى أغلبيتهم أن ذاك المعيار قد قُلب: تزداد حظوظك في تولي منصب سام كلما دستَ على اللغة العربية وقواعدها  !

التحكم في اللغة الرسمية لا يندرج ضمن مقاييس تولي المناصب العليا، بل يخال المرء عندما يستمع إلى أغلبيتهم أن ذاك المعيار قد قُلب: تزداد حظوظك في تولي منصب سام كلما دستَ على اللغة العربية وقواعدها

ولا شك أن تطوّر لغة التخاطب في الشارع والأماكن العمومية، وما آلت إليه لدى الشباب بوجه خاص، تشكل ظاهرة ومادة دسمة تستحق الدراسة من قبل أكادميينا في مجال اللسانيات وعلم الاجتماع! فأين، يا أستاذ بخليلي، ترون أننا بخير في هذا المجال: الشاب والمسؤول عندنا يعجز عموما عن التفوّه بجملة سليمة من بدايتها إلى نهايتها باللغة العربية. وأنتم، كرجل إعلام، لا شك تتابعون قنوات عربية مختلفة المشارب، وتلاحظون مدى فصاحة وسلاسة لغة الضيوف في هذه القنوات سواء تعلق الأمر بسياسيين أو رجال إعلام أو علماء عرب. وكم نستحي في كثير من الأحيان من مداخلات بني جلدتنا، ليس لمضمون أفكارهم، بل لطريقة التعبير عنها.

وأما ما نراه في الشارع فحدّث ولا حرج، فحتى اللافتات وواجهات المحلات التجارية والإعلانات الإشهارية التي كان يُطلب من أصحابها في السابق أن يعرّبوا مضمونها، قد فُرنست أو كُتبت بدارجة ركيكة، وقد زال الحرفُ العربي في معظم تلك المواقع، لاسيما في المدن الكبرى.

يقول الأستاذ بخليلي إن العاصمة ليست معيارا، بل على المرء أن يذهب إلى بسكرة أو الوادي ليرى الفرق. وما الذي يمثل البلاد، يا أستاذ؟ هل هو العاصمة وكبار مسئولي البلاد الماكثين فيها؟ أم بسكرة والوادي ومسئوليها المحليين؟ كيف يفسر الأستاذ بخليلي مثلا تلك اللقطة المشينة التي شاهدناها في السابق، وأعادت بثها قناة الشروق، والتي تظهر مسئولا جزائريا رفيع المستوى مطأطأ الرأس يقرأ خطابه بصعوبة من ورقة باللغة الفرنسية، وإلى جانبه يقف سفير الولايات المتحدة رافع الرأس، ويلقي كلمته المرتجلة بلغة عربية سلسة في العاصمة الجزائرية؟

حول الجانب الديني

فيما يخصّ الدين الإسلامي، نحن نعلم أن الأستاذ بخليلي يلم أكثر من غيره بشعائر ديننا الحنيف وأنه يؤمّ الناس في المساجد ويحفظ نصيبا من القرآن، جله أو كله، ويتلوه تلاوة جميلة خلال صلاة التراويح وغيرها. كل ذلك جميل… لكننا نتساءل: كيف يقيّم أحدنا أن هؤلاء أكثر تديّنا من أولئك؟ إنه تقييمٌ صعب وخطير لا يعلمه، في نظرنا، إلا خالقنا. ثم، بعيدا عن النبرة الوطنية التي تميل إلى تفضيل الجزائريين على الغير في كثير من الأشياء… ونحن نؤمن بأن هناك منا من هو أحسن، وهناك منا من هو أسوأ في كل الأمور. نقول بعيدا عن كل ذلك الخطاب: إذا كنا فعلا في مجال العقيدة أحسن من العرب والعجم، فما الذي جعل ساستنا يجلبون البعثات الأزهرية ليعلّموا الدين الإسلامي خلال الستينيات وبعدها في المعاهد الدينية؟ وإن كان لنا من علماء الدين من يسدّ حاجتنا، فلماذا أتى ساستنا بكبار شيوخ الأزهر مثل الشعراوي والغزالي والقرضاوي وغيرهم لقضاء سنوات يعلّمون طلبتنا أصول الدين؟

بطبيعة الحال، فهناك من يقول إن هؤلاء هم الذين أصابونا بمصيبتنا، وهناك من ردّ عنهم بالتنديد. وليس هذا موضوعنا هنا، وإنما نشير إلى ذلك للتأكيد على أننا كنا نطلب العلم من جيراننا في مجال الدين والعقيدة، وبالتالي فنحن لم نكن أحسن منهم.

قومٌ لا يفقهون

وقد استطرد الأستاذ بخليلي في اليوم العالمي للغة العربية خلال إجابته عن سؤال لم يُطرح فنادى بترسيم الأمازيغية “للتصالح مع الذات”، مشيرا إلى أن الأمازيغية ليست ضرّة للعربية. لا شك أن هذا موقفٌ واضح ومحترم يتبناه الكثيرون، والدفاع عنه حق مشروع، غير أن ما هو غير طبيعي في هذا المقام هو أن يكون لبخليلي هذا الموقف بالذات ويتغاضى عما تعانيه اللغة العربية من دوس واحتقار وإهانة من قبل من هم مطالبون بالدفاع عنها… والأدهى من ذلك أنه يرى هذه اللغة تتمتع اليوم بأوج عزها في الجزائر!

ليس سرا أن اللغة العربية ضحية الساسة ومثقفيها في كل البلاد العربية؛ فالمتمعن في فكر هؤلاء المسئولين في جلّ (إن لم نقل كل) البلاد العربية يتجلى له أنهم يعتقدون اعتقادا راسخا بأن تخلفهم راجعٌ إلى تشبّثهم باللغة العربية في التدريس، لاسيما تدريس المواد العلمية… وأن نجاتهم ونجاة بلدانهم تكمن -ضمن سياق العولمة- في العودة إلى لغة المستعمِر. وكعيّنة من هذا التفكير الغريب نتذكّر هنا أن خلال ندوة في بداية القرن الحالي، عندما صَمَّم القومُ عندنا على تغيير الترميز العربي في الرياضيات إلى الترميز الفرنسي في المدرسة، نهض أحد كبار المسئولين في وزارة التعليم العالي (وهو أستاذ دكتور علمي) مستبشرا يردّد: من الآن فصاعدا سوف يرتفع المستوى العلمي في مدارسنا، لأننا سنقول sinus و cosinus بدل جيب وجيب التمام!… والمضحك أنه عندما كان يقول هذا الكلام السخيف كان نسي كيف يُسمى sinus بالعربية، فطلب من جواره خلال خطابه أن يذكّروه بذلك المصطلح العربي. وهكذا كان هذا المسئول -وأمثاله في كثير من البلاد العربية- يعتقد أن رفع المستوى في المدرسة يكمن في استبدال س بـ .x إنهم قومٌ لا يفقهون.  

وهم لا يدركون أن تطوير اللغة الرسمية للبلاد وتدريس كافة العلوم والفنون بها عنصرٌ من العناصر الأساسية لتقدم البلاد وازدهارها… بدونه يظلّ التقدم المنشود ناقصاً وبدون روح مهما تحقق منه. ما نظن الأستاذ سليمان بخليلي يرى عكس ذلك.


 * أستاذ بقسم الرياضيات المدرسة العليا للأساتذة- القبة

مقالات ذات صلة