الرأي

سولكينغ وسر نجاح أهل الراي وفشل أهل الرأي

محمد بوالروايح
  • 3485
  • 16
ح.م

لست من محبي سولكينغ الفنان ولست أيضا من مبغضيه، والمقام هنا ليس مقام حب أو بغض، وإنما هو مقام نجاح أو فشل، أو بعبارة أخرى مقام ما يستطيع بعضنا أن يحققه فيما يخفق فيه الآخرون، فقبل شهر أو أقل شهدنا اجتماعات ماراطونية للمعارضة السياسية والنخبة المثقفة من أجل إقناع الجزائريين بالوقوف في صفها وتأييدها وتبني أفكارها، وقد سخَّر السياسيون والمثقفون داخل هذه المعارضة لهذه الغاية ما أمكنهم من وسائل الدعاية والاتصال وأرسلوا وفودهم في كل اتجاه لشرح ما يعتزمون تجسيده، ولكن في النهاية لم يستجب لهم إلا قليلون، إذ احتدم الجدال بين الشركاء وتحولوا إلى فرقاء وازداد شرخ الخلاف بينهم وتحولوا من مهمة الجمع إلى مهمة رأب الصدع.

فشل السياسيون وأهل الرأي في استمالة الجموع ونجح في المقابل الفنانون وأهل “الراي” في استمالتهم، ومن هؤلاء الفنان عبد الرؤوف دراجي المعروف باسم “سولكينغ”. إن فشل هؤلاء ونجاح أولئك يفسر بتفسيرات كثيرة، منها أن الفنان يخاطب في جمهوره الحس العاطفي والإنساني الذي يوجد علاقة حميمية وخرافية بينهما، علاقة ينزل فيها الفنان إلى الجمهور فيتولد بينهما انسجامٌ وتناغم تام يجعل كلا منهما حريصا على بقاء الود إلى أبعد حد، ومن هذه التفسيرات أيضا أن الفنان يحرص في الغالب على العفوية والبساطة اللتين تزيلان الحواجز النفسية بينه وبين جمهوره بطريقة تختفي معها الأسماء والألقاب وثقافة التعالي والتباهي وتحل محلها ثقافة التماهي التي تجعل أحدهما سندا ومددا للآخر والعكس صحيح، ومن هذه التفسيرات أيضا أن أهل الرأي يتعاملون في كثير من الأحيان مع جمهورهم بعقلية التابع والمتبوع والقائد والمقود، ما يترتب عنه فقدان الثقة وتوجُّس أحدهما من الآخر، ومن هذه التفسيرات أيضا أن أهل الرأي داخل المعارضة أو الطبقة السياسية بصفة عامة يميزهم تشبُّثهم بما يشبه الفكر القبلي في تضييق مجال الحوار وقصره في بعض الأحيان على الأتباع والأشياع.

يتسابق محبو سولكينغ هذه الأيام في حجز الأماكن وربما يتجشم بعضهم الصعاب من أجل أن يحظوا بلقاء ماتع مع سولكينغ، وقد تضيق القاعات بالحضور فلا يتردد بعضهم في اختراق الصفوف أو الدوس على الأعناق والرؤوس فهؤلاء المهووسون بالفن يؤمنون وعلى طريقتهم بأن الضرورة تبيح المحظورة، فكل شيء مباح في سبيل الكلمة العذبة التي تنسيهم كل مشقة.

سيأتي سولكينغ فيضفي على المشهد الجزائري حركية لافتة للنظر تنسي بعض الجزائريين مظاهر الرتابة والقتامة التي ألفوها والتي صنعها بعض السياسيين الذين لا يحسنون أداء دورهم السياسي، وسيأتي سولكينغ فيخرج محبوه لاستقباله في مشهد خرافي، وسيأتي سولكينغ فينفر الشباب ويخرج الرجال وربات الحجال مهرعين وربما يتخلف بعضهم عن تشييع أقرب مقربيه إذا صادف موته حفل سولكينغ، فمجلس الغناء الذي يكون فيه سولكينغ أولى عندهم من مجلس العزاء.

ما قلته عن نجاح أهل “الراي” وفشل أهل الرأي في استمالة الجموع يجعلنا نفكر في السر الكامن وراء ذلك، ومنه على وجه الخصوص أن النفوس جُبلت على حب المتعة النفسية ولذلك تجدها أحرص على كل ما يحقق هذه المتعة، في حين تجدها أنفر وأزهد فيما يتصل بالرأي لأنها لا ترغب في التفكير أبعد من مطالب الجسد. يجب أن لا نستغرب هذه الفرضية في تفسير نجاح أهل “الراي” وفشل أهل الرأي في استمالة الجموع، فهناك أمثلة حية متكررة في حياتنا تؤكدها تأكيدا قاطعا، فسلطان الكرة أكبر من سلطان الفكرة وقيمة نجوم الرياضة أكبر من قيمة نجوم الرياضيات، وراتب نجم الكرة أكبر ربما بسنة ضوئية -إذا جاز القياس- من راتب رائد الفضاء، وما يجمعه الفنانون في ليلة واحدة أكبر مما يجمعه المثقفون في سنة كاملة أو ثانية أو ثالثة.

لقد أكبرت في سولكينغ -رغم أنني لست من محبيه- موقفين اثنين: الموقف الأول تصريحه بأنه ألحَّ على أن يكون الحفل الذي يقيمه في الجزائر يوم الخميس وليس يوم الجمعة حتى لا يشوِّش على جمعة الحراك أو يزهد شباب الحراك في الحراك إذا صادف هذا الأخير حفلا لسولكينغ، والموقف الثاني تصريحه بأن عائدات الحفل ستُوجَّه إلى مراكز رعاية الأيتام. قد يسيء بعض الناس تفسير هذا الكلام ويرمونني بإقرار المخالف على مخالفته لروح الشريعة التي تقضي بأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وأجيب على ذلك بأنني أتعامل مع الموضوع من جانبه الإنساني وليس من جانبه الشرعي المحض.

نجاح أهل “الراي” في جمع الحشود وفشل أهل الرأي في هذه المهمة يجعلنا نقول إن حاجة أهل الرأي إلى أهل “الراي” أكيدة من أجل الاستعانة بهم في القضاء على مظاهر الكراسي الفارغة والقاعات الخاوية التي لم يفلح أهل الرأي في ملئها رغم طرق التشويق المعتمدة، إن الطبيعة لا تقبل الفراغ، والمكان الذي تهجره يشغله بالضرورة آخرون.

أشيع عن سولكينغ بأنه ماسوني لأنه ظهر بشعار ماسوني في إحدى الحفلات في باريس، ولكنني شخصيا لا أقيم وزنا لهذه الاشاعة؛ لأنه ليس كل من غنى أو كتب عن الإخاء الإنساني فهو ماسوني، فقد أشيع هذا عن الأمير عبد القادر وعن بعض الأعلام ونظرنا كما نظر غيرنا في هذه التهمة فوجدناها واهية لا ترقى لكي تكون دليلا على صحة الادِّعاء. هناك أمرٌ آخر أكثر اهتماما واعتبارا في حالة سولكينغ، فهذا الاسم يعني “ملك الروح”، وهنا يتجلى سر نجاح أهل “الراي” وفشل أهل الرأي في امتحان الاستقطاب الجماهيري، فأهل “الراي” حريصون على ترقية العلاقة الروحية والصداقة الحميمة بينهم وبين جمهورهم، وأما أهل الرأي إلا من رحم فمتمادون في تدمير هذه العلاقة لأنهم لم يتخلصوا من ثقافة النظر إلى أتباعهم بأنهم مجرد أرقام حسابية لا تصلح إلا في حالات الانتخاب والاستفتاء وكفى الله المؤمنين القتال.

سيحقق سولكينغ ما حققه الشباب ريفكا الذي حشد في يوم واحد ما عجزت الأحزاب مجتمعة عن حشده في شهور كثيرة فنال بذلك سبق القدرة على الاستقطاب والإقناع والإمتاع محدثا بونا شاسعا بينه وبين السياسيين الذين يؤكدون في كل مرة بأنهم ظاهرة صوتية لا أقل من ذلك ولا أكثر.

أناشد سولكينغ بمنطق الأمر الواقع أن ينضم إلى الحَراك وجولات الحوار لعله يكون مُحاورا ناجحا أكثر من السياسيين، ففي التاريخ الإنساني مواقف رائعة لفنانين خدموا أوطانهم أكثر مما خدمها النخبويون والمثقفون.

ما أتعس حالنا نحن المثقفين وأهل الرأي، فقد عجزنا ولعقودٍ كثيرة عن صناعة نجوم ثقافيين كما فعل الفنانون وأهل “الراي”، عجزنا عن صناعة نماذج ثقافية قادرة على الحشد نضاهي بها نموذج “ريفكا” و”سولكينغ” والقائمة طويلة.

مقالات ذات صلة