الرأي

سياسة فرنسا الثقافية في الجزائر

التهامي مجوري
  • 11801
  • 7

منذ 27 مارس 2018 أرسل إلي الأخ نذير طيار نسخة من ترجمته لكتاب “سياسة الثقافة الفرنسية في الجزائر”، الذي صدر له قبل يومين فقد، لمؤلفته الفرنسية كميل ريسلير. والكتاب رسالة أكاديمية نشرت سنة 2004، وقد أعدت كدراسة بمعهد التاريخ بمونتريال كندا.
وبمجرد أن قرأت مقدمته، عزمت على الكتابة عنه ولو لمجرد الترويج له؛ لأن كتاب جدير بالقراءة والتعريف به لكل جزائري يغار على بلاده…، ولكن المشاغل صرفتني عن قراءته والكتابة عنه، وكلما تذكرت الكتاب أسرعت إلى قراءة بعضه، ثم أنساه ثانية، وثالثة، ورابعة….، وكلما تذكرته عدت إليه لأقرأ أو أكتب.. إلى أن جاءت هذه اللحظة التي انتهيت فيها من قراءته وكتابة هذه السطول… فمعذرة للأخ نذير على هذا التأخر، ومعذرة للقارئ الذي أرى من حقه علي أن يقرأ عنه في ذلك التاريخ الذي تفصلنا عنه ثمانية أشهر.
إن ترجمة الكتاب من قبل الأخ نذير، ليست مجرد ترجمة محترفة لكتاب صدر في السوق له قراء، يمكن للمترجم أن يحقق به مكاسب مادية أو مكانة علمية، وإنما هي ترجمة بِنَفَسٍ نضالي، يريد المترجم نقله إلى اللغة العربية، ليكشف عن أمر يشعر به كل الجزائريين الوطنيين الصادقين، ولكنهم لا يجدون الأدلة الكافية المساندة والمؤيدة لشعورهم… فكل الجزائريين يشعرون أنهم غير مستقلين الاستقلال الكامل.. لا يزالون يشعرون أن فرنسا موجودة بصورة أو بأخرى.. ويشعرون أن الاستعمار لا يزال مهيمنا على حياتنا.. كيف؟ ما هي الأدلة؟ ما هي الحجج..؟ ذلك ما يكشف بعض خيوطه هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
حجم الكتاب 250 صفحة من الحجم المتوسط، يغطي كل مراحل سياسة الاستدمار الفرنسي الثقافية طيلة 132 سنة بتفاصيلها المدمرة للثقافة الوطنية ببعديها العربي والإسلامي، وبتفاصيل الشعارات السياسية الثلاثة التي انتهجتها فرنسا.
1- شعار الإدماج، بمحاولة إنشاء المملكة العربية على يد نابليون الفاشلة، وإنشاء لجان البحث في الأدب والفنون، وإنشاء جمعيات الآثار، وإصدار المجلات ومنها المجلة الإفريقية التي استمرت إلى غاية الاستقلال، ومن خلال الدراسات الانثربولوجية التي سارت في اتجاه تصوير المجتمع الجزائري على أنه كانت مستعمرا من قبل “باحتلال روماني، واحتلال عربي”، والإحتلال الفرنسي ليس أكثر من مجرد احتلال من الاحتلالات ولكنه أكثر شرعية من غيره !!
من خلال الشرعية التاريخية، القائمة على إثبات الوجود التاريخي للرومان في المنطقة، ومن كان له ماضي يمكن أن يكون له مستقبلا، أي أن الوجود الفرنسي اٍن يستمد قوته من الوجود الروماني القديم، أي لا يمثل الاستدما إلا مجرد العودة إلى بلاد كانت بلاد أجداده.
وخطة الإدماج المفضية إلى “الجزائر الفرنسية” وإن أخفقت فرنسا في سياستها بتحقق الاستقلال، إلا أن الثقافة الفرنسية لا تزال متجذرة في بلادنا بكل أسف، بفضل قوة المشروع الثقافي الفرنسي الذي عملت عليه فرنسا بدقة وقوة وإخلاص، حيث عمدت إلى صناعة جميع الروافد التي تحقق هذا الغرض نذكر منها على سبيل المثال.
1. مقاومة الثقافة الإسلامية: بتأميم الأوقاف، والتحكم في المساجد والزوايا وتقليص تأثيرها…، وعرقلة خدمات المكاتب العربية والدراسات حول العشائر.. والتحكم في الدراسات العليا من المدارس الإسلامية لتشكيل نخبة علمانية …
2. إصدار مرسوم إنشاء المدارس الإبتدائية في بعض المدن.. والاهتمام بالتعليم.. لترويض الأهالي وتضخيم التحضر الإستدماري.. والإغراء بتقديم الخدمات الطبية
3. تنشيط حركة التنصير..، والتركيز على منطقة القبائل..، باعتبار الخصوصيات التي روجوا لها على أنها امتداد للعرق الروماني.
4. الهندسة المعمارية.. التماثيل… أسماء الشوارع… لفنون الجميلة.. لأدب المسرح الاستشراق….
أما فكرة التشارك كما جاء في الكتاب، فقد ولدت بميلاد حركة للشبان المعجبين بالثقافة الفرنسية، وهم الطبقة المثقفة ثقافة فرنسية فيما عرف بعد ذلك بـ”النخبة”، وهي فئة قال عنها “جون جوريس”، لم تستطع الحفاظ على ثقافتها الأصلية، كما عجزت عن الالتحاق بالثقافة الفرنسية التي أعجبت بها، فهم قليلون ولكنهم حركيون فاعلون.
وإلى جانب ميلاد هذه الفئة، وضعت سياسة أهلية فيما يعرف بقانون الأهالي، حيث يتم التعامل مع العنصر الجزائري، ليس كمواطن مستعمر له بعض الحقوق، وإنما بوصفه عنصرا مختلفا عن غيره من الموجودين بالجزائر، إلى جانب حرمانه من أي حق، مثل منع الأطفال من الالتحاق بالمدارس القرآنية.. الرقابة على الحج باعتباره المنفذ على الشرق وهو خطير..
ومثلما أوجد الإستعمار وسائط من العملاء بين الأهالي والإدارة الاستدمارية، أوجد صيغة أخرى لإحكام القبضة، فاعتمد سياسة التفرقة “فرق تسد” بين العشائر والإخوانيات والمرابطية..،تفريقا ثقافيا فيما يثار من خلافات تعبدية وسلوكية.. وتعيين الشيوخ وعزلهم.. وعرض الإسلام في صورة منحطة لفرض الثقافة الغربية..، وتنشئة طبقة من الزعماء الدينيين للقيام بالمهمة أحسن قيام.
وفي المجال الثقافي فقد ركز الأستدمار في سياسته الثقافية على ّفلكلرة” -أي تحويلها إلى لفلكلور- الثقافة وتهميش الثقافة العلمية….، وكل ما من شأنه يوحد الصف الجزائري ويشعره بالانفصال عن فرنسا؛ بل أحيى الكثير من العادات الميتة والبدع والعوائد الفاسدة، كما ركز أيضا على الإهتمام بالعادات القبائلية لتكريس فكرة علاقة القبائل بالرومان والحضارة الغربية، وإبعادها عن محضنها الوطني العربي الإسلامي الكيبر، وصنع لذلك نخبا تبعث كل ثقافة كانت ما قبل الإسلام على مستوى الجزائر كلها.. ومنها منطقة القبائل واعتبرها جوهر النخبة…، كما فعل مثل ذلك في الفن الأهلي الشعبي، وعرضه في المتاحف الثلاثة: قسنطينةو الجزائر ووهران.
وفي سنة 1930 أحيى الاستعمار الذكرى المائة لاحتلال البلاد، وأراد بهذه الذكرى أن يشيع جنازة الإسلام من الجزائر…، ويعلن رسميا على أن الجزائر قطعة من فرنسا وأراد لهذا الحفل أن يغطي السنة كلها، ولكن الله أراد غير ذلك، فكان رد الفعل الطبيعي على هذه الفعلة ظهور التمرد الشعبي على هذا الحفل ببروز الكثير من مظاهر التعلق الشعبي بالدين الإسلامي بوالمبادئ الوطنية بجميع أبعادها السياسية والدينية والثقافية، ومن ذلك تجسيد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة1931، التي كانت فكرة تختمر في عقول رجالها منذ 1913، وبلورة الفكرة منذ 1924 و1926.
أما المرحلة الأخيرة من مراحل السياسة الثقافية فقد كانت للاندماج ، ولكن من حسن الحظ أن سياسة الإستدمار العنصرية لم تترك مجالا للتردد عن الجزائري في بغض فرنسا، ومن ثم فإن سياسة الاندماج لم تجد أذانا إلا في أوساط القليل من النخبة، أما باقي الشعب فلم يكن له أمل في فرنسا ولا في وعودها، بسبب عنصريتها تجاه الأهالي.. ولعل من أبرز الأمثلة لهذا البغض الدفين في قلوب الجزائريين المثل القائل “العربي عربي ولو كان الكلونيل بن داود”؛ لأن الكولونيل بن داود كان ممن تجنسوا والتحقوا بالجيش الفرنسي وترقى في المراتب إلى أن وصل إلى رتبة عقيد “كولونيل”، ولكن الإدارة الفرنسية بقيت دائما تتعامل معه على أنه من الأهالي، الذين هم درجة دون الفرنسيين ومن له الحصوة في عرفهم.
لا شك أن فرنسا فشلت في إلحاقها الجزائر بفرنسا، وفشلت في البقاء بها، ولكنها لم تفشل في بث سمومها عبر تلك السياسة الثقافية المشؤومة، وهي لا تزال تراهن إلى اليوم على ما تركت خلفها من قيم ثقافية لا تزال تنخر جسم الأمة عبر الإدارة والنخب الممسوخة التي تركت فيها بصماتها التدميرية.

مقالات ذات صلة