سيناريوهات انتخابات 2012
تحدثنا في المقالات السابقة عن بعض السيناريوهات الممكنة في انتخابات 2012، ومنها السيناريو المعتاد المتعلق بنجاح حزبي السلطة واحتلالهما المرتبة الأولى والثانية بمسافة بعيدة عن الأحزاب الأخرى. وتطرقنا في هذا المشهد إلى مخطط تفضيل التجمع الوطني الديمقراطي وفق حسابات ما قبل الثورات العربية، ثم بسطنا الحديث عن التعديل الذي قد تذهب إليه مخابر تفصيل نتائج الانتخابات على هذا المخطط لكي لا تكون الجزائر بعيدة عن محيطها العربي والمغاربي، فتُمكن التيار الإسلامي في مجمله من تحقيق المرتبة الأولى، ولكن ضمن إطار مشتت لا يسمح له بتشكيل الحكومة التي تكون مفاتيحها كلها في أيادي أصحاب القرار الحقيقيين ولا تمر الطرق المؤدية لها إلا عبر حزبيه وبرلمانييه الموزعين على قوائم الأحرار والأحزاب الأخرى خصوصا الصغيرة منها. وقد يعمد نظام الحكم في هذه الحالة أو غيرها إلى توسيع القاعدة الحكومية مثل ما فعل سنة 1997 أو أكثر فيُدخل فيها العديد من الأحزاب من مختلف التيارات بحجة صعوبة المرحلة، ولمواجهة المخططات التي تحاك ضد الجزائر! وقد يتجه في الحكومة إلى ترئيس رجل إسلامي في المظهر، ولكنه نظامي في المخبر… ليبقى الحكم دائما في جهة واحدة… تلك التي تحكم الجزائر منذ خمسين سنة.
هذه السناريوهات والمشاهد التي عرضناها وغيرها تندرج ضمن ما يسميه الاستراتيجيون نمط التخطيط بالسيناريو. وهو نمط يَعرض فيه المكلفون بوضع الخطط كل السيناريوهات الممكنة، ثم يدرسون حظوظ كل سيناريو والآثار المترتبة عليه، والظروف المتوفرة في البيئات الداخلية والخارجية التي تساعد على تحقق هذا المشهد أو ذلك، ثم يتم في الأخير اختيار أحسن السيناريوهات الممكنة التي تخدم الجهة التي يشتغل لصالحها واضعو الخطط، ثم يقترحون التغييرات التي يجب أن تقع في البيئات الداخلية والخارجية للأطراف الفاعلة في الساحة المعنية (الساحة السياسية في حالتنا هذه) لكي يتحقق مشهدهم المختار.
لا يجادل أحد في أن هذا النمط من التخطيط هو من أحسن الأنماط المتبعة في عالم الاستراتيجية، غير أن أصحاب مخابر صنع القرار عندنا يفتقدون إلى شرطين من شروطه، ولذلك يخطئون كثيرا في تدبير شؤون البلاد ويصيبهم الإرباك إذا وقع السيناريو الذي يرفضونه، ويعسر عليهم معالجة الأزمات المترتبة عن قراراتهم فتتعقد وتطول آثارها. وهذان الشرطان اللذان يغيبان في ثقافة أصحاب القرار هما القدرة على التفكير خارج الصندوق والعمل بقاعدة رابح رابح. أما غياب الشرط الأول فيتعلق بذهنية “التاغنانت” أو “معزة ولو طارت” أو “ما أريكم إلا ما أرى” أو بسبب التخلف الذهني وضعف البديهة والقصور في التفكير التي يجلبها التكبر والغرور والاعتداد بالنفس واحتقار الآخرين. وهي كلها طباع تؤدي إلى تضييق مساحة الخيال، واجترار المعتاد، وحبس الذهن في المجرب ولو كان فاشلا، ورفض سنن التغيير، والإعراض عن قراءة المؤشرات الجديدة والمدخلات الطارئة. وأما فقدان الشرط الثاني فمرده أخلاق ذميمة تصيب الحكام تنسيهم بأن هدف الحكم والسياسة هو خدمة الصالح العام وتوسيع مجال الربح ليشمل الجميع، فلا يفكرون إلا في أنفسهم وما يديم سلطانهم ونفوذهم ومتعهم.
إن المنطق والعقل ومسايرة السنن وفقه التحولات التاريخية الكبرى تؤكد بأن المرحلة السياسية الراهنة هي مرحلة الإسلاميين، ولا يتطلب الأمر لفهم هذا سوى تحرير العقل من سجن الصناديق المغلقة والرضا بالقدر والواقع الكوني المشهود والتعامل معه بمروءة ورجولة. وأي احتيال عليه هو تأجيل يعقد الأوضاع يكون في آخر المطاف لصالح الإسلاميين لتجريب حظهم وسبر قدراتهم كأحزاب عادية ترفعها الصناديق وتحطها. لابد أن يفهم أصحاب استراتيجية “الديمقراطية الآمنة” التي أشرنا إليها في مقال سابق بأن استراتيجيتهم هذه قضى عليها الربيع العربي. لا بد أن يفهموا بأن اعتمادهم على تيئيس الكتل الانتخابية المعارضة، خصوصا الإسلامية منها ودفعهم للمقاطعة وتشجيع غيرهم بغرض احتكار الاستفادة من الانتخابات لإدامة الأمر الواقع لم تعد مأمونة العواقب. حتى وإن خسر الإسلاميون حقيقة هذه المرة بسبب عدم مشاركة القوى الشعبية الإسلامية المعارضة فإن الانتخابات ستكون مغشوشة، لأنها إفراز لعهد التزوير الذكي السابق الذي تحسم فيه الانتخابات مسبقا بدعم هؤلاء وتشجيعهم، وتيئيس هؤلاء وتهميشهم.
قد يزهو الإسلاميون بهذا الحديث فيسيل لعابهم ويطمعوا، ولكن الحق الذي يجب أن يقال هو أن التفكير خارج الصندوق وتفعيل قاعدة رابح رابح لا يستثني أحدا من الفاعلين السياسيين في الجزائر.
من حق حركة مجتمع السلم مثلا أن تطمح، وأن يكون سيناريو نجاحها هو الأوفر حظا لديها، فقد ثبت في كل الانتخابات السابقة بأن ثمة كثيرا من الجزائريين من ثَمّن سياساتها، وأن عدم وصولها للحكم وعدم تطبيق برنامجها كان سببه التزوير لا غير، وأن مشاركتها في الحكومة ليست كلها سلبيات، إذ كثير من الناخبين ينظرون بعين الرضا لوزرائها، ولئن كانت إنجازات أغلب هؤلاء الوزراء غير بادية لعدم قدرة المواطنين على تتبع آثارهم فإن إنجازات وزارة الأشغال العمومية يعرفها الملايين الذين يسيرون على الطريق السيار شرق غرب وأكثرهم لا يخفون إعجابهم بهذا الإنجاز وأصحابه، خصوصا وأن قطاعات أخرى قريبة من قطاع الطرقات يمسكها وزراء من أحزاب أخرى يتوفرون على إمكانيات كبيرة كذلك لم يفعلوا شيئا مماثلا. وبالإضافة إلى ذلك لاتزال القوة الهيكلية والشبابية والطلابية والنسوية والخيرية والاجتماعية واهتماماتها بقضايا الأمة التي تتوفر عليها حمس في مختلف الولايات قادرة على صناعة الفرق، غير أن هذه الثقة في النفس لدى حمس لا تلغي المخاوف الحقيقية التي باتت تهدد فرصها في تصدر المشهد الإسلامي، فبقاؤها في الحكومة أمدا طويلا تجاوز ضرورات الأزمة يحملها مسؤولية الإخفاقات الحكومية وفضائح الفساد المتتالية، كما أن الطعنة التي تعرضت لها بحركة الانشقاق وما تبعها من تراشق وتنابز قلل من مصداقيتها.
يستطيع عبد الله جاب الله أن يطمح هو الآخر، وأن يعتبر بأن المرحلة مرحلته، فهو المعارض الدائم لنظام الحكم وهو الداعية الإسلامي القديم الذي لم يتعرض للتشويه بسبب عدم مشاركته في مواقع المسؤولية، وهو صاحب الخبرة في التنظيم وتشكيل الأحزاب وبناء الجماعات، وهو الخطيب المفوه الذي يتعامل مع الكلمة بسهولة ويسر، وهو السياسي المظلوم الذي لا يتوقف التآمر عليه في نظر الكثيرين، غير أن هذه الإيجابيات الكبيرة كلها يقابلها عدم الاطمئنان لأساليبه في القيادة والإدارة لدى الكثير من الإسلاميين الذين يُحمِّلونه قسطا كبيرا من مسؤولية الانشقاقات التي يتعرض لها بشكل دائم ومتواصل منذ عهد السرية إلى اليوم، مما يهدد بتحويل مشروعه إلى مشروع شخصي لا تحتضنه وفرة من الكوادر الإسلامية المدربة والمكونة. إن المخاوف الكبرى التي يتحدث عنها الإسلاميون بخصوص جبهة العدالة والتنمية التي أسسها عبد الله مردها هذه الثغرة. يخشى الإسلاميون أن يُستعمل هذا الحزب الجديد كحصان طروادة تخترق به المخابر والأجهزة الخفية الصف الإسلامي، فتحقق النجاح الانتخابي باسمه لتزيين المشهد وهو ليس من التيار الإسلامي في شيء. إن التصريحات التي أطلقها عبد الله جاب الله نفسه والتي هي حديث العام والخاص في الحركة الإسلامية بخصوص التحاق “ضباط متقاعدين” بأعداد معتبرة في الهياكل ـ ربما ـ أو في قوائم الترشيح مخيفة جدا. لا بد لهذا الوضع من إجراءات مطمئنة تجنب الإسلاميين الخديعة الكبرى التي قد لا يُقدّر خطورتها الإسلاميون الأصلاء المنخرطون في جبهة العدالة والتنمية، سواء كان الشيخ جاب الله أم غيره، فالأمر لا يهمهم وحدهم، والمصير ليس مصيرهم وحدهم. ولا يعني هذا أن الحركة الإسلامية لا تنفتح على غير رجالها، وأنه لا يوجد أصلاء في الضباط المتقاعدين أو غيرهم، لا وألف لا، ولعل الخير في خارج الحركة الإسلامية أكثر، ولكن شتّان بين الانفتاح التلقائي المبدئي وبين الترتيبات المخبرية التآمرية التي ألفناها… لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يسيء الظن في الناس، ولكنه كان حذرا.
إن الإجراء التصحيحي الذي نقصده هو ذلك الذي يجمع شرف تاريخ الحركة الإسلامية من أطرافه، ويثمن إيجابيات الحركة الإسلامية بكل مفرداتها وفصائلها، ويستر الحركة الإسلامية بكل عيوبها وعوراتها، هو ذلك التصحيح الذي يقوم على وحدة الصف الانتخابي فيكون في مستوى الفرصة المتاحة. وإن هذا المشروع قد نهض له عدد من الرجال وقد قارب على الوصول إلى مراتب النجاح، ذلك هو السيناريو المفضل الذي نقصده، وهو الموضوع الذي سنتطرق إليه في المقال المقبل بعد أن نستوثق الخبر عنه من أصحابه بحول الله.