-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شتّان بين موريس ومحمد!

شتّان بين موريس ومحمد!

عندما نُشر مقالنا “جائزة موريس أودان: مستقبلٌ باهت” في صفحة “الرأي” بجريدة الشروق يوم 15 جوان الفارط، وصلتنا تعقيبات متباينة في مضمونها، منها ما أكد ما ذهبنا إليه، ومنها ما فاجأنا من المغتربين الذين تَعَالوْا في أسلوب الخطاب، واتهموا المقال بأنه مغرض يخدم مصالح ضيقة لبعض زملائهم داخل الوطن! وقد أجبناهم بأن تأويلهم هراء نترفّع عن التعقيب عليه. والواقع أننا كنا ولا زلنا نرى أن جائزة أودان، التي كان لها الفضل في إبراز عدد من المتميزين في البلاد، قد حادت هذه السنة عن طريقها من غير رجعة، وبشكل مفضوح، وهذا ما كنا شرحناه في المقال المذكور.

لِمَ نعود إلى هذا الموضوع؟

لا زلنا اليوم نؤكد أنه آن الأوان لتؤسس الجزائر (عبر أكاديمية العلوم، مثلا) جوائز علمية وطنية، منها جائزة في الرياضيات، ونحن نحتفل بالذكرى الستين للاستقلال. وما يبرر هذا المطلب أن جائزة أودان للرياضيات ليست جائزة جزائرية الجنسية ولا الصنع، بل هي جائزة بادرت بتأسيسها جهة فرنسية أرادت تخليد مساهمة اليسار الفرنسي في مناهضة الاستعمار، فكان لها ذلك، ولا عيب أن يكون لها ذلك، لكننا لسنا في الجزائر مطالبين أن نسير على هواها. وفي هذا السياق، لا عيب في أن نذكّر بأن المناضل موريس أودان (1932-1957) لم يكن رياضياتيا لامعا لنحتفي بسعة علمه، ولا أستاذا بارعا ذاع باع في الأستاذية لنخلد ذكراه في مجال تكوين أجيال مدرستنا.

نعود إلى هذا الموضوع اليوم لأنه على إثر انعقاد ملتقى “تعليم الرياضيات وثقافتها…” في المعهد الوطني للبحث في التربية (الجزائر) الذي أشرف عليه وزيرا التربية والتعليم العالي يوم 25 جوان، عبّر البعض عن شديد أسفهم على عدم الإشارة في أعمال الملتقى إلى إسهام المرحوم محمد بن قادة (1923-2006) في خدمة المدرسة الجزائرية بصفة عامة، والرياضيات بصفة خاصة. وتأكيدا على تقصير مسؤولينا، ومن حذا حذوهم، وحتى يكون القارئ شاهدا على ما نذهب إليه، نوجز فيما يلي سيرة هذا الأستاذ المجاهد الذي خاض الجهادين : جهاد الاستعمار من الأربعينيات إلى عيد الاستقلال، وجهاد التربية والتعليم والقلم والفكر خلال 45 سنة بعد الاستقلال.

قبل قرن من الآن، ولد محمد بن قادة بمدينة مازونة (غليزان) حيث رأى النور يوم 11 جانفي 1923، ودخل المدرسة القرآنية في سن الرابعة والمدرسة الفرنسية في سن الخامسة. ثم التحق عام 1940 بدار المعلمين ببوزريعة. وعندما تخرج منها راح يعلّم بالمدارس الابتدائية الفرنسية بالجزائر. ثم رغب في مواصلة دراسته بالجامعة عام 1944، ولذا انتقل إلى العاصمة ليواصل العمل في سلك التعليم وليسجل بكلية العلوم بجامعة الجزائر عام 1944. ونال شهادة الرياضيات العامة عام 1945.

وبحلول عام 1955 أحرز على شهادة الليسانس في الرياضيات، وكذا على دبلوم الدراسات العليا في التحليل الرياضي، وهي الشهادة التي حصل عليها أيضا موريس أودان في نفس الفترة، والتي تمثل أعلى شهادة في الرياضيات يمكن الحصول عليها من جامعة الجزائر وقتئذ. والتحق موريس بالتدريس الجامعي، بينما التحق محمد بسلك التعليم الثانوي ! والجدير بالذكر أن بن قادة لم يزاول دراسته في الجامعة بشكل متواصل حيث انقطعت مدة طويلة، ثم عاد إليها عام 1949 بعد أن انشغل كثيرا خلال تلك الفترة بالنضال الوطني والسياسي ضمن الأحزاب الوطنية المنادية باستقلال الجزائر.

المجاهد والأستاذ محمد بن قادة

يقول بن قادة عن دراسته وعن الوضع الدراسي خلال الحقبة الاستعمارية : “كنتُ في الأربعينيات معلما وطالبا وكانت لي، ولبعض الأخوة، رغبة قوية في اكتساب المعرفة والنشاط في مجال الرياضيات، ولا زلت مغمورا بقضايا البحث عن المعرفة مهما كانت بساطتها. وأعتقد أن هذا الاجتهاد الطبيعي قد نفعني كثيرا. فطالب عهد الاستعمار الفرنسي كان محروما ومحلّ احتقار … ومن الطبيعي أن يجتهد إلى أقصى حدّ لينال حصة من العلم والمعرفة”.

اشتغل بن قادة بتدريس الرياضيات في الثانويات منذ ذلك الوقت وواصل بعد الاستقلال حتى عيّن مفتشا عاما للرياضيات. وكان أول من ألّف وترجم كتب الرياضيات لمنظومتنا التربوية. وخلال السبعينيات، كان المرحوم من أبرز الأستاذة الذين قامت عليهم المدرسة الأساسية، فوضع مناهجها وألّف كتبها. وقد أحيل على التقاعد عام 1986. وعندئذ التحق بالمدرسة العليا للأساتذة بالقبة لتدريس مادة تعليمية الرياضيات. وظل يقوم بهذه المهمة حتى سنة وفاته (2006). كما يعود له الفضل في المبادرة منذ 1977 بمشاركة الجزائر في منافسات أولمبياد الرياضيات على المستوى الدولي والإقليمي، وكان من أبرز مدربي الفرق المشاركة في تلك المنافسات. ويكفيه تفانيًا في خدمة الرياضيات أنه درّس هذه المادة أزيد من 60 سنة لبني جلدته. وبذلك يعتبر الأستاذ محمد بن قادة عميد الرياضيات في الجزائر.

ويعرف بن قادة لدى جميع من عاشره بأخلاقه العالية وتواضعه المنقطع النظير. ولم يملّ ولم يكلّ من طلب العلم حيث كان ينفق قسطا معتبرا من مرتّبه المتواضع في استنساخ واقتناء الكتب الرياضياتية ومطالعة المجلات الحديثة التي يعثر عليها في المكتبات الجامعية وعند الزملاء. وكان، حتى سنة رحيله، يبحث عن المسائل الرياضياتية العويصة التي تقترحها المجلة الأمريكية المعروفة American Math. Monthly، ويقول إنه يجد متعة كبيرة في البحث عن حلولها ومسالكها.

ألا يحق لمثله أن تُكرَّم الرياضيات باسمه؟ وأن تحمل اسمه جائزة وطنية في الرياضيات، وأن تسمى مؤسسة تعليمية راقية -مثل المدرسة العليا للرياضيات- باسمه؟ إنه أهل لها وزيادة! عيب بن قادة أنه لم يجد، خلافا لما وجده موريس أودان، من يرفع رايته عاليا في الإعلام ولدى أصحاب القرار لينال حقه من الاستحقاق الوطني. هل يعي هؤلاء بعدد من تتلمذوا في الجزائر على يد هذا الأستاذ الذي كان يخدم المدرسة الجزائرية بصمت خلال 62 سنة؟ وهل هم واعون بعدد من نهلوا من علمه من 1944 إلى 2006؟

فأين نحن مما قدمه موريس أودان للجزائر في مجال النضال والعلم والتكوين مقارنة بما قدمه محمد بن قادة في مجال الجهاد المناهض للاستعمار وحقل الرياضيات وتكوين الأجيال بعد الاستقلال وقبله؟ فأين حماة الذاكرة الوطنية؟ ومتى ينكسر ميزانهم الذي يكيل بمكيالين؟ لقد روى المرحوم بن قادة ذات مرة أنه عندما كان يزاول دراسته في المدرسة الفرنسية خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، كانت إدارة المدرسة تمنع على التلاميذ التخاطب بالعربية داخل الأقسام وفي ساحتها خلال الاستراحة، وكانت تعاقب كل تلميذ يُخلّ بهذا النظام. ولا شك أنه كان ممن تمت معاقبتهم آنذاك… وها نحن نعاقبه مرة أخرى بعدم تخليد ذكراه!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!