-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شعبان حبرّة.. المجاهدُ المتواضع

شعبان حبرّة.. المجاهدُ المتواضع

الشجاعة والإقدام وحدهما لا تكفيان كصفتين، وإن كانتا نادرتين، لوصف الصورة الجهادية ذات الحظوة المشرفة للمجاهد شعبان حبرّة الذي لبّى نداء ربه عصر يوم السبت الثامن جانفي الجاري بعد أن تجاوز التسعين من عمره. وهما، وإن اجتمعتا، لا تفيان بالغرض، ولا تحققان المقصد حتى وإن صيغتا بصيغ أسماء التفضيل التي تُرفق بالزيادات الكثيرة والفيُوض المفرطة الغزيرة.

ويتجرد هذا الحكم من كل مبالغة كما قد يظن، لأن الرجل ظل من أبسل المجاهدين في ساحات النزال، وأقواهم بأسا وبطشا في مقارعة العدو وإلحاق الوهن به كلما واجهه وبارزه وعاركه. وأما خيرُ الشهادات على جسارته ورباطة جأشه، فهي تلك التي تلفَّظ بها رؤساؤه في حقه، وما أسمعوه من أماديح رفيعة تزكيه أمام رؤوس الأشهاد أكثر من مرة.

يشهد له الناس أنه كان ليِّن العريكة، بسيطا في طبيعته وطويّة سجيّته، وصاحب شخصية حلوة ملاطِفة ومداعِبة حتى في الأوقات الصعبة. ويضيفون أنه كان مسالما إلى أبعد الحدود، ومتسامحا فوق كل التوقعات، ومرفقا بالمحتاج والفقير البائس. وأنه لا يردُّ يدا فارغة مُدت إليه، وهي تشكوه حاجة أو معونة، ولا يبالي بما أعطى وأنفق. وأثناء الثورة التحريرية، كان يتجاوز عن أخطاء المواطنين المتهورين، ويجمع لهم من الأعذار ما يُخرجهم سالمين من الورطات التي يقعون فيها. ويُحكى أنه عفا حتى على شخص حضّر لفرقة يرأسها عشاءً مسموما أخلط بمرقه مسحوق دواء يُستعمل في علاج الحيوانات من أحد الأوبئة الضارة بعد أن جاءه من يهمس له في أذنه، ويحذره من الخطر الذي يهدده مع مجموعته. ولما همّ أحدُهم بإنهاء حياة من أراد الغدر بهم وقف في وجه، ومنعه. وتشاء الأقدار أن يسقط صاحب هذه الدسيسة الخسيسة لاحقا شهيدا بعد إعدامه من طرف الجيش الفرنسي.

شكّل المجاهد المغوار شعبان حبرّة فرقة خاصة انتقى لها أفرادا لا يقف أمامهم شيء، ولا يردّهم مانع أو يردعهم رادع. واستطاعت هذه الفرقة أن تحرّم على قوافل الجيش الفرنسي الرحلة الأسبوعية التي كانت تنتقل فيها بين مدينة “باتنة” وقرية “الشمرة” ذهابا وإيابا. ولما عجز الجنود الفرنسيون عن المواجهة، اضطرُّوا إلى تغيير طريق التنقل كليا، وأصبح الذهاب إلى قرية “الشمرة” أو العودة منها يمرّ عبر قرية “تيمقاد”.

لم يكن المجاهد شعبان حبرّة يهوى الحديث عن نفسه، والتعظيم من شأنه في المجالس التي يطوي فيها ركبتيه. ولم يكن يعشق المفاخرة ببطولاته أيام الثورة الكبرى. وكان كلما دار الكلام إلى ماضيه إلا واكتفى بابتسامة هادئة. ورغم عزوفه الشديد في تقليب أوراق ماضيه الوضيئة، وامتناعه من إعادة سرد أو كتابة سطورها حتى تبقى منارة للاحتذاء والاهتداء أمام الأجيال، إلا أن صديقه المربّي الحذق وصاحب الخُلق الشريف الذي تقف عائلته هي الأخرى في ساحة المجد الجهادي بفضل أعمال والده المجاهد ذي السمعة الجهادية البالغة وأعمامه الشهداء الأربعة وابن عمه الذي أغلق عقد الشهادة في عائلتهم، قلت إلا أن صديقه الأستاذ السبتي أحمان استطاع بطريقته البيداغوجية المهذبة والجاذبة أن يستنطقه في هدوء، وأن يجعل كلماته تأتي بتلقائية من دون جهد استدعائي مجهِد، وأن يسجل عصارة مختصرات نقية من مسيرة حياته، وأن يجمع أطرافها وأجزاءها، وأن ينقلها بأمانة وبلا تجميل أو مجاملة في كتيب عنونه بعنوان: “شعبان حبرّة.. بطل صقلته المحن”. ولعل الوفاء للعلاقة الحميمة التي ربطت بين المجاهد شعبان حبرة ووالد الأستاذ السبتي أحمان قد لعبت دورا في إخراجه من سياجات التكتم ودهاليز التستر. وأرى أن الفرصة مواتية لإعادة طبع هذا الكتيب الأنيق بعد تزويده بمعلومات مكمِّلة، وتوزيعه على مدى أوسع وبوجه أخص في مكتبات المؤسسات التعليمية.

تقلَّب المجاهد شعبان حبرة على رمضاء البؤس، ودلكه الدهر دلكا عنيفا، وعضَّته ظروف الحياة منذ أيام صغره الأولى عضًّا مبرّحا ومُدميا، وخضخضته نكبات الدهر خضّا عنيفا معجزا، ولم تبق في عضله وفكره إلا بذور التنشئة الصلبة التي صنعت مؤهّلاته وحنّكته فيما بعد. ولم تخلّف في دمه سوى الطعوم التي حصّنته وهيّأته للمستقبل الذي ينتظره. ولما نكّب سلاحه على كتفه، وأصرّ على فك الجزائر مع إخوانه من مخالب فرنسا الوسخة وجد نفسه على أُهْبة الاستعداد النفسي والمعنوي. فقد ألِف صعوبات العيش بقلب حرقته جمرة اليتم في صغره رغم أن أبويه حيان يرزقان، ولكنهما منفصلان. ولم يجد من كفيل حام يأوي إلى جنبه ويلوذ إليه سوى جده العجوز لأمه الذي ضمه إلى صدره في حنان محاولا أن يخفف عنه حرقة الآلام التي يتجرّعها. واضطر إلى ممارسة رعي الأغنام لما انقطعت في وجهه سبل الاشتغال. ولكن عزة نفسه كانت تحرك في عقله الانفكاك والنفور من كل من يريد استغلاله في بشاعة. وكان في كل مرة يخرج منتصرا رغم أنه يشق طرقا لا يمضي فيها إلا المغامرون الذين لا يهمّهم الحصاد سواء أكان ربحا مريحا أو خسارة نكراء.

أقام المجاهد شعبان حبرّة بفرنسا التي هاجر إليها بمساعدة أحد أقربائه لمدة وجيزة. وأعيد إلى أرض الوطن لأداء الخدمة العسكرية تحت ألوان العلم الفرنسي. وتعدّ المدة التي قضاها مشتغلا في مرفق خدماتي يملكه جزائريان منخرطان في ركب الحركة الوطنية في مدينة “نانسي” الفرنسية. وكان الروّاد المتردّدون على محلهم يملكون نفس القناعات. ووجد في هذا المناخ المفعم بالروح الوطنية ما يُغني فكره ويحدّد وجهته ويساعده على رسم طريق سيره.

فُرض عليه الالتحاق بثكنة “التلاغمة” بميلة التي تعدّ واحدة من أكبر التجمعات العسكرية الفرنسية في أرض الجزائر. وكانت الشرارات الأولى للثورة قد انطلقت. وقبل أن يكمل فترة تجنيده، اختلى به مجندٌ جزائري آخر، وخاطبه بقوله بعد أن أطمأن إليه: (ينبغي أن لا نستلذّ حساء الثكنة وإخواننا يكابدون الحرمان والعذاب في الجبال). وكانت هذه الجملة الصادقة كافية للتأشير عن انعطافة جريئة ومعتبرة في يوميات حياته المستقبلية.

كم تصنع أيام التاريخ من فوارق ومن توافقات؟ فقد شاءت التقديرات الحكيمة أن يكون يوم فرار المجنَّد شعبان حبرة مع زميله صالح غرارة من ثكنة مدينة “التلاغمة” هو نفسه اليوم الذي استُشهد فيه رجل الثورة الأول الشهيد مصطفى بن بولعيد قرب قرية “نارة” الواقعة في جنوب غرب الأوراس في 22 مارس 1956. ولا أحد يدري كيف تفاعل مع هذا الخبر.

قضى المجاهد شعبان حبرّة أغلب أيام الثورة في ناحية بوعريف من الولاية الأولى التاريخية، ولاية الأوراس، يجوبها طولا وعرضا بلا توقف. فهو مجاهدٌ خفيف الحركة وكثير النشاط، ولا يتسلل العياء إلى نفسه. ولما كانت هذه الناحية قليلة الجبال، ومكشوفة في معظم نقاطها، وعلى مرمى حجر من معسكرات الجيش الفرنسي، فإنها كانت تحت منظار المراقبة والمتابعة بلا انقطاع، ولذا سمِّيت بـ”المنطقة الحمراء”.

كان المجاهد شعبان حبرة شديد البطش والحميّة في المنازلات. وفي جبل “وستيلي” المطل على بلدة “تازولت”، شارك في معركة دارت رحاها في الثامن من شهر أوت 1958م. وبعد ساعات من المواجهة العنيفة، وحينما أراد مغادرة ساحة المعركة للكرّ من جهة أخرى، طلب ممن يعرفون تضاريس الموقع أن يشيروا له على أصعب نقطة للتسلل من خلالها. وأوصى من يحملون القنابل أن يتزوّدوا ببعض الحجارة ورميها أوّلا. ولما نفذوا هذه الحيلة الذكية، وقف جنود العدو مرتبكين وأصيبوا بالهلع الشديد، وظنوا أنهم يهاجَمون بصنفٍ جديد من القنابل لم يعرفوه من قبل، وكانت القنابل تتفجر بفواصل زمنية متأخّرة عن ارتطام الحجارة بالأرض. وتمكّنت المجموعة المتسللة التي يقودها من المرور عبر واد قريب في خلسة تامة. ولما بدأت القنابل تنفجر متلاحقة هنا وهناك، وتثير الرعب والفزع، استلقى العساكر الفرنسيون أرضا حتى لا تصيبهم شظاياها، وتظاهروا بالسكون. واعتقد المجاهدون أنهم سقطوا صرعى، فانطلقوا يفتّشون جيوبهم ومحافظهم لسلبهم ما يملكون. وفي ممرّ الخروج، صادف المجاهد شعبان حبرّة خمسا من الجنود الفرنسيين مستلقين بعد أن خبّأوا أسلحتهم تحت أرجلهم، فراح يتحسّسهم بيديه، فوجدهم أحياء، وخاطبه أحدهم بقوله وبلغة فيها استسلام: (أمض في سبيلك.. وأتركنا وشأننا). فجرّدهم من أسلحتهم، وصوّب إليهم رصاصات اخترقت سراويلهم الخشنة، وأصابتهم في الخلف حتى ينجيهم من العقاب الذي قد يسلطه مسؤولوهم عليهم.

لما بلغت غطرسة الجيش الفرنسي مدى لا يُحتمل من الجور، ونفدت أمامه ذرات صبر المجاهدين والمواطنين، شكّل المجاهد المغوار شعبان حبرّة فرقة خاصة انتقى لها أفرادا لا يقف أمامهم شيء، ولا يردّهم مانع أو يردعهم رادع. واستطاعت هذه الفرقة أن تحرّم على قوافل الجيش الفرنسي الرحلة الأسبوعية التي كانت تنتقل فيها بين مدينة “باتنة” وقرية “الشمرة” ذهابا وإيابا. ولما عجز الجنود الفرنسيون عن المواجهة، اضطرُّوا إلى تغيير طريق التنقل كليا، وأصبح الذهاب إلى قرية “الشمرة” أو العودة منها يمرّ عبر قرية “تيمقاد”. وإثر هذا التضييق الذي لم يتحمله العدو، أصبح رأس المجاهد شعبان حبرّة مطلوبا بأي ثمن وبكل الوسائل. ولم يفلح العدو في مسعاه إلا بعد أن وقع أسيرا عقب وشاية حقيرة بتاريخ الحادي عشر جويلية 1961م. وقُدِّم للمحاكمة بتهمة الفرار من صفوف الجيش الفرنسي.

بعد استرجاع الاستقلال الوطني، تعفّف المجاهد شعبان حبرّة، واكتفى بمزاولة أعمال عادية لإعالة أفراد أسرته. ولم يشترط منصبا يمنحه جاها ونعيما ووجاهة، ويُكسبه منزلة ومرتبة اجتماعية تجلب له شهرة وتعظيما حتى لا يغتال تواضعه، فترتسم موانع وسدود مع أبناء بلدته التي آثر العيش فيها، ولم يفكّر في مغادرتها. وبطباعه التي حافظ عليها استطاع أن ينال حب وتوقير أبنائها كبارا وصغارا.

ورّثت متاعب الثورة للمجاهد شعبان حبرة أمراضا صدرية مزمنة أقلقته سنوات طويلة، وجعلت صحته تتردى يوما بعد يوم. وزادها قلة اهتمامه بالعلاج الفعّال تفاقما وتضخُّما واستفحالا. وساءت حالته مع تقدمه في العمر. ولما أحاط الإجهاد برئتيه، اضطر للاستعانة بأجهزة تساعده على التنفس.

رحم الله المجاهد المصدام البئيس العمّ شعبان حبرّة، وجزاه خيرا ونعيما عما قدّمه للجزائر ولكل أبنائها، ووفقنا للسير على دربه الذي خطه بشجاعته وإقدامه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!