-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شقيقي سليمان الشهيد.. وشذرات من حياتنا بالريف

عثمان سعدي
  • 1498
  • 0
شقيقي سليمان الشهيد.. وشذرات من حياتنا بالريف

وأبدأ بقصة جهادك واستشهادك، شاهدت وأنت في عنفوان الشباب بداية الثورة، فقررت الانضمام لجيش التحرير الوطني في سنة 1955 أي بعد سنة من اندلاع الثورة، وأنت في سن الواحدة العشرين.

شاركت في عدة معارك، روى لي بعض رفاقك أنك كنت تسلي زملاءك من شظف العيش الجهادي القاسي بترديد أغاني وكان صوتك جميلا وأداؤك أجمل، كنت تطرب رفاقك بتذكرهم بأغانيك بأمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم وبناتهم وإخوتهم وأخواتهم.

كنت بين الآونة والأخرى تأتي إلى والدتنا التي كانت تحبك أكثر من أبنائها، فتقضي معها ومع أختنا مائسة وزوجها حسين والطفلة كلثوم ابنة أختنا يمينة ليلة تأخذ منها دعواتها وبركاتها ثم تعود للجهاد. كنت تضع بطاقة التجند في سقف المنزل، حتى إذا قام العدو بغارة لم يكتشفك. كما تم حرق سائر الصور للمجاهدين بما فيها الصور في سجلات الحالة المدنية حتى لا يتعرف العدو عليكم. بحثت عن صورة لك فلم أجد لك صورة بالرغم من قضاء أربع سنوات في الجهاد.

 أصبت حبيبي سليمان في معركة ونقلت إلى تونس للعلاج، نصحك الأطباء بعدم العودة للجهاد لأن الإصابة أثرت، فقلت لهم: “سأعود ولأمت هناك بالجزائر لأنني طالب شهادة”. وعدت ضمن مجموعة حملت السلاح للولاية الثالثة، ووصلت الولاية وسلمت السلاح، وفرضوا عليك العودة إلى الولاية الأولى بلا سلاح ولا مال، ولاحظ ضابط قبائلي شهم فأمدك بعصا وبقليل من المال مكنك بجهد كبير من الوصول إلى الناحية السادسة بالولاية الأولى، وأخبرني زملاؤك بأنك كنت تعلق على ذلك بقولك “نعم نقلت السلاح إلى اخوتي زواوة كما كان يسميهم أخي عثمان، وأنا فخور بذلك لأن هذا السلاح الذي نقلته سيتسبب في قتل الأعداء”.

  إعادة تنظيم الشعب: كُلفت بالمهمة الصعبة وهي إعادة تنظيم الشعب الذي تأثر بفوضى، فتم اختيارك مع رفاق لك في دشرة ذراع البقرات ببَحيرَة الأرنب، اخترتم بئرا جافة ومهجورة، فأقمتم داخلها مخابئ تأوون بها نهارا، وتخرجون ليلا لتنظيم الناس.

وذهبت الوشاية الخائنة واكتشف العدو مخبأكم في  البئر، فجاءوا بك مقيدا ووجهك مغسولا بالدم، محمولا على سيارة جيب، وقفت السيارة أمام أكواخنا في (ذراع البقرات)، كنت تصيح: “قلت لكم أنا لست جزائريا أنا تونسي متطوع في صفوف الجزائريين، أنا من تونس”. واستدعى الضابط الفرنسي والدتنا فوقفت أمام السيارة، قال لها:”أنت العجوز زينة بنت الأخضر؟”، فأجابته: “نعم، أنا هي” فقال: “أتينا لك ابنك”، واقترب منها متفحصا وجهها، أجابته: “لا أعرفه لأول مرة أرى هذا الشاب”.

واستدارت السيارة، فنزلت الدموع من عينيها، لكن الغبار الذي انطلق من تحت عجلات السيارة لم يتح للضابط الفرنسي رؤية هذه الدموع..

وفي أثناء مغادرتك للدشرة مقيدا مرت أمامك عجوز تحمل برميلين من الماء على حمار فقلت بالشاوية “لا تخافوا يوجد رجال”، معنى هذا سأموت تحت التعذيب ولا اعترف بأنني منكم.

 ومعنى هذا أن الفرنسيين عذبوك يا عزيزي سليمان ولم تعترف بأنك جزائري ، ومتْتَ تحت التعذيب والفرنسيون يتصورون أنك تونسي، ولو اعترفت لعاد الأعداء إلى (ذراع البقرات) ودمروا أكواخها. وهذه قمة التضحية التي وصفت بها كمجاهد صلب. وبسبب حب والدتنا لك غادرت الحياة سنة 1973 وهي مقتنعة أنك لا زلت حيا مختفيا في بلد ما. كنت أقول لها :”يا والدتي العزيزة سليمان استشهد وهو ينتظرك للتوجه بك إلى باب جنة الرضوان”، فتستمع جيدا للكلام وعيناها تدمعان… كان استشهادك أيها العزيز سنة 1959 في سن الخامسة والعشرين أي في زهرة الشباب.

ومن الغريب يا سليمان الحبيب حتى الأطفال شاركوا في الثورة ، فكلثوم ابنة أختنا يمينة والتي ربتها والدتنا روت لي، وأنا اكتب هذه القصة، أنها وهي في سن الحادية عشرة كلفت بمهمة، تقول : “أركبوني فرسا وتوجهت إلى دوار أولاد خليفة حيث يوجد سليمان ورفاقه المجاهدون، توجهت وأنا على الفرس مسافة كيلومترات ، وأخبرت سليمان أنهم مدعوون لتناول العشاء عندنا في ذراع البقرات، ثم عدت وأنا راكبة الفرس، وحضر المجاهدون في الوقت المحدد، كلفت بهذه المهمة وأنا طفلة لأن أي رجل يقوم بها يلفت انتباه العدو الفرنسي…” ألا تستحق هذه أن يعترف لها اٍلآن بأنها محاهدة؟

شذرات من حياتنا: افتقدتك حبيبي سليمان… آن الأوان لأستعرض معك وأنت في دار الخلود شذرات من حياتنا. عشنا في أسرة مكافحة في مَشْتى أولاد مسعود بدوّار ثازبنت، والدنا بلقاسم اقترن بوالدتنا زينة وهو في سن الأربعين بعد عودته من رحلة دراسية في فرع جامع الزيتونة التونسي بمدينة توزر على الحدود الجزائرية التونسية، الزيتونة التي لعبت دورا في الحفاظ على اللغة العربية بالقطرين التونسي والجزائري خلال الاستعمار الفرنسي.

اقترن بها وهي في سن السابع عشرة، بعد زواج بثلاث زوجات توفيت الأولى والثانية وطلقت الثالثة. أنجبا ستا: ولدين وأربع بنات، ربياهم على طاعة الله والوالدين. استشهد أحد الولدين، وترملت بنتان شهبة ووناسة كأرملتي شهيدين، ترك الشهيد البشير للأولى سبعة أطفال، وترك الشهيد موسى للثانية خمسة، وكان لي الشرف يا حبيبي سليمان أنني قمت برعاية الجميع.

  قريتنا أو دشرتنا لا توجد بها مدرسة، فقرر والدي أن يعلم ابنا من أبنائه، وكنت أنا المختار للتعلم. فأرسلني وعمري سبع سنوات لأختي الكبرى العطرة من أم أخرى توفيت، وكانت تقيم بمدينة خنشلة، حيث درست الابتدائي في المدرسة الفرنسية المخصصة للأهالي أي للجزائريين، وكنت أتابع حفظ القرآن بالفجر، وفي العصر أتعلم اللغة العربية بمدرسة جمعية العلماء، أي كنت أتابع التعليم في ثلاثة أنواع. وقامت الحرب العالمية الثانية، فأصبت بمرض التّيفوس فخضر والدي ونقلني تهريبا من خنشلة إلى دوارنا في ثازبنت، فعالجتني عمتي غزالة علاجا شعبيا، فشفيت، وأخذ العدوى والدي فتوفي وكان عمري اثني عشر عاما.

وكان عمرك أنت يا عزيزي سليمان ثمانية، فاضطررت لترك الدراسة والقيام بمهمة الإشراف على الأسرة لمدة خمس سنوات، وعندما وصل عمرك اثني عشر عاما استلمتَ أنت القيام برب الأسرة، وتوجهت أنا للتعلم في مدرسة تهذيب البنين والبنات العربية بتبسة مع الإقامة لدى أختي العطرة التي انتقلت من خنشلة إلى تبسة. وفي سنة 1947 توجهت لقسنطينة حيث صرت طالبا في معهد عبد الحميد بن باديس الذي فتح لاستقبال  تلاميذ مدارس جمعية العلماء الابتدائية في القطر .

كنت أقضي أشهر الصيف طوال السنوات الخمس معك نتعاون في حصاد قطع الأرض من القمح والشعير ودرس السنابل وتخبئة الحبوب في غرارات تكوّن معيشتنا نحن وحيواناتنا طوال السنة، وكانت الوالدة تربي دجاجا وأرانب تساعدنا على التغلب على صعوبة الحياة. وكنت أنت يا سليمان العزيز تقوم بالجهد الأكبر قائلا لي : “وفر صحتك لدراستك يا عزيزي عثمان”.

منزلنا يتكون من غرفتين وحوش، مبني بالحجارة، سقفه يتكون من طالع أي أعمدة من شجر التاقة وعليها الحلفاء مدعومة بثلاثة أعمدة ضخمة صنعت من ساق شجر البلوط أو الصنوبر موضوعة على أعلى الجدار؛ وكان السطح يتكون من الحصباء المخلوطة بالرمال، ويوجد بالسطح حجر ضخم على شكل عمود روماني أملس بمجرد أن ينزل المطر تصعد أنت للسطح وتدوس بقدمك الحجرة فتدعس السطح وتشد الحصباء بعضها ببعض منعا لتسرب المياه للمنزل هذه المياه التي تنساق نحو مزراب ينزل للحوش، وكنت أنت تقوم بمهمة التقرقيب كما يسمى. الماء نأتي به من بئر يبعد عن المنزل ألف متر،

أما الوقود من الحطب نحضره من الغابة التي تبعد عنا مئات الأمتار، قريتنا أو دشرتنا ترتفع 1200 متر قوق سطح البحر، وتبعد عن شاطئ البحر مائتي كيلومتر. هي باردة بالشتاء منعشة جيدة بالصيف. كانت الوالدة تجمع لنا بيضات دجاج فنأخذها أنا أو أنت إلى مدينة تبسة التي تبعد عنا ثماني عشر كيلومتر ، نمشيها على الأقدام نبيع البيض ونشتري به قليلا من الملح والبهار والكبريت، وكانت الخالة الزهراء تقيم بتبسة ترسل معنا البن والسكر للوالدة مع بعض الآشياء الأخرى. كانت حياتنا حياة سكان الريف الجزائري المحرومين من الطريق والكهرباء والمدرسة والمستوصف.

كانت قِطع الأرض التي تركها لنا والدنا موزعة بين ثازبنت، وبَحِيرة الأرنب، وظهيرة بوجلال، كنا نفلحها فتدر علينا ما يكفينا من القمح والشعير لنا ولحيواناتنا، وكنت أنت ترعى شويهاتنا التي نستمد منها مع بقرتنا الحليب والسمن والصوف الذي تصنع منه الوالدة وأختنا وناسة بما نتدثر به من قشابية لي ولك وبخانيق للوالدة والأختين وناسة ومائسة.

تخرجتُ من معهد عبد الحميد بن باديس سنة 1951 فأرسلت إلى القاهرة ضمن أول بعثة طلابية ترسلها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. أذكر جيدا أنني غادرت دشرتنا في نوفمبر من نفس السنة، فودعت من الوالدة ومنك ومن شقيقتي مائسة وكلبنا الوفي هبّول في فُمَّ الفج، وقد أخبرتني فيما بعد أن كلبنا عندما شاهد العائلة تودعني بالدموع أدرك أن الرحلة هذه المرة ستطول، فبقي في فم الفج ثلاثة أيام بلياليها ينتظر عودتي مضربا عن الطعام، واستطعت أنت أن تقنعه برفع الإضراب والعودة إلى الحياة الطبيعية.

  ////////////  صيد القنفذ

أجمل ما أتذكره صيد القنافذ، كلبنا هبّول الذي ربيته وهو جرو على صيد القنافذ، وذلك بأن فجرت مرارة القنفوذ على أنفه عدة مرات، فكبر على تعقبه لآثار القنافذ بالشم. خرجت معك في رحلة رائعة لصيد القنافذ في فصل الربيع حيث يغادر هذا الحيوان مخابئه تحت الأرض التي حفرها حماية له من برد الشتاء بطريقة تمنع وصول ماء السيول وبرد الثلوج لها. هذا الحيوان الذي تقيه الأشواك التي تنبت في جلد ظهره من أي عدوان عليه، بمجر شعوره بأن خطرا ما يتهدده ينكمش ويصبح كرة من الشوك أي من الإبر الحادة التي تحميه من أي عدوان. لكن نقطة ضعفه في أن الماء إذا سكب عليه ترتخي عضلاته ويفك انكماشه، وعدوه هو الذئب الذي عرف بالغريزة نقطة ضعفه فيتبوّل عليه فيفك انكماشه فيقلبه ويفترسه من بطنه الخالي من الشوك. كنا نشاهد آثار هذا الافتراس بانتشار جلدة ظهر القنفذ وهي بارزة بشوكها مع خلو بطن ولحم القنفذ الذي افترسه الذئب الماكر.

خرجت معك يا سليمان العزيز في رحلة صيد القنافذ عدة مرات، وأنا أحضر لدشرتنا دوار( ثازبنت) في عطلة من الدراسة، كان الجو مشمسا ربيعيا في منطقة العرعور التي تقع شمال أخواخ مشتانا أي دشرتنا المسمات مشتى (أولاد مسعود)، والعرعور مساحة واسعة من التلال المغطاة بنبات الديس والحلفاء وهي تقع على ارتفاع ألف وثلاثمائة متر فوق سطح البحر. وتكثر بها الزواحف التي يتغذى منها القنفوذ، فمثلا القنفوذ قادر على التهام ثعبان يعض ذنبه ويروح يقضم لحمه والثعبان يحاول لدغه لكن الشوك يمنعه، يقضم بطنه ويصعد نحو رأسه وعندما يصل إلى غدة السم الموجود قرب رأسه يتركه ميتا. وعجائز قريتنا يؤمنن بأن لحم القنفذ عبارة عن دواء لأنه يأكل سم الثعابين والأفاعي وهذا غير صحيح.

وصحتَ في كلبنا الذكي هبول قائلا “عزيزي هبول أكرف القنافذ كعادتك الرائعة”، ومَرْحبَ الكلب ولعق بلسانه يدك وهو يومئ أنه فهمك، ثم انطلق أمامنا مسرعا وهو يشم الأرض وسرعان ما سمعنا نباحا معينا، جعلك تقول لي “عثمان إن نبحه على قنفذ أحاطه”، وانطلقنا فوجدناه ينبح ويمد يده للقنفذ الذي تكور، فالتقطناه ووضعناه في زنبيل على جحشنا المطيع، الذي كان يقوده صبي من العائلة. والكلب الغير المدرب عندما يكتشف القنفذ يعضه فتدمي شوكه منخاره، لكن الكلب المدرب الذكي كهبول ينبح ويمد يده عليه دون أن يلحق به الشوك أذى. واستمر هبول في تعقب سبيل القنافذ بحيث وصلنا إلى أربعة عشر قنفذا، فصحت في سليمان “كفى يا حبيبي سليمان، لقد اعتبر هذا اليوم أغنى يوم لصيد القنافذ، أنت تعلم أنه في هذا الموسم يتجاوز وزن القنفذ الواحد خمسة كيلو غراما، ومعنى أن قنطارا تقريبا كثيرا على جحشنا الصغير”

وعدنا بهذه الغنيمة الرائعة إلى الوالدة فقمت أنت بذبح هذه القنافذ، وطريقة ذبحها غريبة، فالقنفد متكور على نفسه، يصب عليه الماء فتسترخي عضلاته ويفك تكويره، فتقوم أنت بوضع حذائك على ظهره المشوّك وتغرز في منخاره إبرة خشنة وتذبحه، ومع الذبح يصيح بصوت كصوت الرجل فيهز المنطقة. ثم قمت بسلخه بطريقة نفخ جلده وإزالة الشوك منه، فيصير لحما مذاقه رائع، قامت الوالدة بتوزيع بعض اللحم كالعادة على الجيران حيث تعتبر العجائز أن لحمه عبارة عن دواء للإنسان. ثم قامت الوالدة وأختنا مائسة بتمليح بعض القنافذ ونشر لحمها للشمس حتى تتحول إلى قديد، في غياب الثلاجات والكهراباء في الريف  في ذلك الزمن.

   /////////////// صيد الأرانب بالثلج

عزيزي سليمان تذكرت مهارتك في صيد الأرانب بالثلج. نقطة ضعف الأرنب تراكم الثلج بالجبال، يخرج الأرنب من مكمنه لتناول العشب ويحاول التحرك عسى أن يجد مساحة صغيرة غير مغطاة بالثلج، ويترك على الثلج آثار أقدامه، فيكتشفها الصيادون فيتبعون الأثر إلى أن يصلوا إليه فيقفز هو هاربا وتنغرز أقدامه الرقيقة في الثلج فتعوقه على السرعة فيمسكه الصياد أحيانا بيده، أو يقذفه بعصى رقيقة فيسقط فيمسكه.

عزيزي سليمان لقد كنت تعرف أين يوجد الأرنب، رافقتك في الجبل الذي لا يبعد عن ديارنا سوى مئات الأمتار، سرت تحت قيادتك نحو عنكوب الطريق والعنكوب بالتعبير الشعبي هو مرتفع مغطى بغابات الصنوبر والبلوط والتاكه، يمتد مسافة يحيط به على اليمين واد وعلى اليسار واد، ويواجه بعد الوادي عنكوبا آخر. قلت لي “عثمان العزيز اتبعني أحمل معك الشبكتين، والخيوط الصغيرة التي نقوم بربط الأرنب عندما نمسكه”، وسرنا بالعنكوب مسافة قليلة وفجأة صحت أرنب أنظر، ثم فقزت وراءه فأمسكت به بعد أمتار، وأحضرته فقمنا بربط أقدامه الأربعة ثم وضعناه في شبكة حملتها أنا على ظهري. وتقدمنا هكذا ، وفي ساعتين أمسكنا بخمسة أرانب بين ذكر وأنثى، فقلت “نضعها الخمسة في الشبكة ونربط الشبكة في شجرة، ونتقدم”، وهكذا بفضل مهارتك وتدبيرك اصطدنا خمسة عشر أرنبا، عدنا بها للوالدة التي صاحت فرحة “هذا كله بفضل ابني العزيز سليمان” ثم قمنا بذبحها وتشريح معظمها وتمليحها ونشرها لتتحول إلى قديد، بعد أن قامت الوالدة الكريمة بتوزيع بعضها على الأقارب والجيران.

///////////// الحصاد

   ذكرتك أيها العزيز كيف أشاركك حصاد قطع أرضنا الصغيرة التي نزرعها قمحا وشعيرا، وكيف كنت تقول لي وأنت تصغرني بأربع سنوات “عزيزي عثمان أنت بنيتك نحيفة دع لي أنا ذي البنية القوية العمل الشاق”. كنا نستعين بالجيّارين وهم الحصّادة بالمناجل الذين يأتون بعائلاتهم من مناطق ضربها الجفاف لمنطقتنا الممطرة، فيقومون بحصد حقولنا بمناجلهم على أساس يأخذون عشر ما يحصدون لهم، وكانت تصحبهم عائلاتهم يقيمون في خيام. وتذكر جيدا تلك القصة العجيبة، كيف كنا نشرف على الحصّادة في منطقة الأحواض بسنابلها الهائلة من القمح وكيف لاحظنا امرأة حامل تساعد زوجها الحصاد بجمع الأغمار في أكداس، وفجأة جلست وهي تصرخ فأحاطت بها زميلاتها، فقد جاءها المخاض وولدت صبيا في الحقل، وساعدها على الولادة عملها الدؤوب فنزل الجنين فقررنا أنا وأنت أن نجعل لها حصة عمل ليومين كاملين تأخذهما سنابل وأمرنا زوجها أن يصحبها للخيمة على حمارنا، فسمت الجنين عثمان. وأخبرنا الوالدة فقامت بزيارتها وهي تحمل لها مثردا من الزرير وهو نوع من الحلوى تعد للمرأة النافس.

   /////// مع الجيش الأمريكي

   أتذكر كيف في سنة 1942 انتقلت عائلتنا من ثازبنت إلى دشرة الترشة ببَحيرة الأرنب أي سهل الأرنب، وكيف شاهدنا الجيش الأمريكي وهو معسكر على مسافة خمسة كيلومترات من الترشة في جبل بوجلال لمواجهة زحف الجيش الألماني والإيطالي الذي قدم من ليبيا وسيطر على جزء من جنوب تونس ووصل إلى حدود الجزائر الجنوبية الشرقية. وتمكن الجيش الأمريكي والإنجليزي من وقف هذا الزحف.

وفي يوم من الأيام شوهدت سيارة جيب أمريكية تقترب من مغارات  الترشة فخرج سكانها مذعورين لانتشار شائعات مفادها أن الجنود الأمريكان السكارى يقومون أحيانا باغتصاب النساء تحت تهديد السلاح، وأمرت النساء بالاختفاء تحت الأغطية، وقرر الرجال تكليفي كمتعلم بالتحدث معهم، وركضت بعيدا عن الأكواخ صحبتك سليمان.

كان بالسيارة ثلاثة من الجنود الشقر يمضغون اللبان، وتوقفت السيارة فاستدعاني سائقها وسألني بالإنجليزية وفهمت أنهم يسألون عن مكان المعسكر الأمريكي فأشرت بيدي نحو جبل بوجلال، ضحك الضابط الذي كان راكبا بجانب السائق وأعجب بذكائي وجرأتي وأنا صبي عمري اثنا عشر عاما فدعاني أن أرافقهم إلى المعسكر ووعدني بأن يعيدوني مع هدايا إلى منزلي، وعندما أدرك أنني خائف قال لي مستعينا بإشارات: ” كام، كام، دونت فرايد”.. أي تعال تعال لاتخف.

وابتسم الضابط ابتسامة أوحت بثقة عميقة لديّ،  وصحبت الجنود الأمريكان إلى المعسكر، واحتفى بي الجنود وأمر الضابط السائق أن يعيدني إلى الترشة محملا بملابس: قمصان وسراويل ومعطف بأقصر مقاس، وألواح من الشيكوله وعلبا من اللبان، وطلبت من السائق ورفيقه أن ينتظرا قليلا لأحضر له بيضا طازجا، وأسرعت إلى والدتي التي وجدتها ترتجف وتبكي خوفا من أن يكون قد اختطفني الجنود لإلحاق الأذى بي، فطلبت منها أن تضع ما عندها من بيض في قفة ففعلت فركضت معك يا عزيزي سليمان وأعطيتها للسائق وما أن شاهدا البيض حتى صاحا فرحين:  ” إيجز.. إيجز.. فاين فاين..”  وتمكنت من حفظ كلمات بالإنجليزية وتنميتها ومنذ هذا التاريخ صرت متخصصا في الاتصال بالجنود الأمريكان.

بعد أسبوع طلبت من والدتي إعداد خمسين بيضة، وضعتها في قفة وأحطتها بالتبن حتى لا تتكسر وحملتها على الحمار مع زير من الحليب الطازج وتوجهت بصحبتك يا عزيزي سليمان إلى صديقي الضابط جون. ولم تنس والدتي أن توصيني بضرورة أن أطلب منهم مظلة طيران، لأنها مصنوعة من الحرير الأخضر الجميل، الذي يصلح أن تخاط منه قنادير نسائية فاخرة.

ووصلنا للمعسكر في جبل بو جلال وقدمنا له الحليب وأفهمته أن الحليب والبيض طازجة، ووجدناهم موقدين النار لإعداد الطعام، فتقدمت منها وأخذت كأسا من الحليب وأغليته أمامهم في إبريق حديدي أعطاه لي طباخ المعسكر، لأبين  لهم سلامته.

وصاح الضابط: “فاين.. فاين.. ثينك يو.. ثينك يو..”، وأمر الجنود بتحميل الحمار بهدايا فاخرة من الملابس والشيكولة واللبان والبيسكوي. وعندما طلبت منه المظلة لم يفهم مقصده فقال له مستعينا بالإشارة:  أتريد يا بوي التدرب على القفز بالمظلة؟ وضحك الجميع وضحكنا معهم ، وأفهمتهم بالإشارة مجال استعمالها، فركض الضابط وأحضر لي مظلة جديدة ملفوفة بخيوطها في كيس من القماش.

وعدنا أنا وأنت يا عزيزي سليمان إلى كوخنا سالمين غانمين . لقد انقطع في هذا الوقت زمن الحرب القماش من الأسواق وصار يباع بأسعار خيالية في السوق السوداء، وكانت السلطات توزعه بالبطاقات مع التموين من سكر وزيت وصابون بكميات قليلة. ولقد وجدتْ المشاتى في ناحية تبسة في مجاورتها للمعسكرات الأمريكية مجالا سعيدا لتأمين ملابس الرجال على الخصوص، كما وجدوا في خام المظلات العسكرية قماشا تصنع منه ملابس للنساء.

كان الفلاحون يقايضون مع الجنود الأمريكان البيض والحليب والزبد بالملابس ويرفضون الأغطية لأنهم يصنعونها بأيديهم من صوفهم.

وتكفلت بجمع البيض من عائلات الأسرة كنت أدفعه لصديقي الملازم جون الذي يجمع لي في المقابل الملابس، وأفهمه أننا لا نريد المأكولات بل الملابس، وقدم لي ملابس بحجم قصير وهو يقول لي: هذه أصغر مقاسات عندنا قد تناسبك.

وقمت معك يا عزيزي سليمان فركبنا حمارين محملين وعدنا بحمولة ثمينة. وهكذا ضمنا لأسرتنا ولأسر أعمامنا تأمين الملابس لها من الجيش الأمريكي. والفلاحون يعانون من أزمة الملابس الخفيفة كالقمصان والسترات والسراويل والجوارب وقنادير النساء، أما الملابس الخشنة كالقشابيات والبرانس للرجال، والبخانيق للنساء، والأغطية والفرش كالحنابل والفرّاشيات والقطف والزرابي، والغرارات التي تخزن فيها الحبوب، والخام الذي تصنع منه الخيام والمسمى بالفليج،  فإنها تصنعها الريفيات من صوف الغنم وشعر الماعز ووبر الجمال.

وتحت هذه الملابس الخشنة تلبس القمصان التي تقي البشرة من خشونة الملابس الصوفية، وتصنع من الكتان أو القطن وهذا هو الذي يحتاجه الفلاحون، وما وجدوه في تعاملهم مع الجنود الأمريكان. فقمصان الجنود يلبسها الرجال كما هي، وتفكها النساء وتعيد خياطتها قمصانا لهن، أما الجرازي الصوفية فتصلح للنساء والرجال. كان الجنود الأمريكان معجبون بجمالك يا سليمان فأنت تميل للشقرة والبياض لا للسمرة.

  *     *    *

 وما أن حل الربيع حتى شدت أسرتنا الرحال إلى ثازبنت، فقد بدأت بوادر ربيع جيد تعم الوجود، والزرع ينبئ بأنه سيكون حسنا، لقد علمنا بأن البقرة ولدت في نهاية الشتاء فأتت بعجل، وأن حليبها سيساعدنا على ترغيد غذائنا الرئيسي الكسكسي، والترغيد هو إضافة حليب للماء الذي أنضج بخاره الكسكسي والذي كان قد خلط بالكليلة والبهار، ثم يسقى الكسكسي الناضج به.

شاهدت والدتي وهي تبكي فقلت لها: يا أمي العزيزة، مالك؟ هل أحببت مغاوير الترشة فتبكين على مغادرتها؟ لا يا بني، أحببت أهل الترشة، أبكي على فراق سلفتي حفصية أرملة عمك التيجاني، لقد قامت هي وأولادها بنا خير قيام، بارك الله فيهم جميعا. نعم يا أمي كان محمود ابن عمي مثالا للشاب الوفي وابن العم العزيز، كان يقول لي دائما: “لا تتعب نفسك يا ابن عمي فأنت خلقك الله للدراسة لا للعمل، أنت حضري ولست ريفيا، نحن هنا يا ابن عمي نقوم بما يجب أن نقوم به، طالما أنتم هنا فأنا وإخوتي نقوم باللازم، لا تنس أن والدك عمي بلقاسم رحمه الله له أفضال كبيرة علينا، فعندما مات والدنا وتركنا صغارا قام هو لمدة سنتين بالإشراف علينا ومراقبة أحوالنا ورعاية شؤوننا إلى أن كبرنا قليلا”، وقد أجبته قائلا: أنا مقدر لمشاعرك يا ابن عمي العزيز، لكن أنا مصمم على العمل، عظامي طرية كما تقول من الحياة الحضرية التي عشتها مدة خمس سنوات في خنشلة، لكن هذا العهد انتهى، فقد مات والدي وانفصل عنا أخي الأكبر كما تعلم، وصرت أنا رب الأسرة، والواجب يفرض علي أن أعوّد نفسي على العمل الشاق، وأنا أشعر الآن أن عظامي بدأت تشتد وتكتسب الصلابة، هي لم تعد طرية كما تتصور، وسليمان أخي صار شابا عظامه خشنة.

   كان رفاقك في السلاح يا سليمان يحبون أن تكون منهم، لأن لك صوت جميل تقوم بالغناء فتفرحهم وتجعل نفوسهم تتذكر الأحبة البعيدين عنهم. فيطرب رفاقك من أولاد يحيى عندما تغني لهم:

 سيدي يحيى نعطيك الجاوي وتبخيره*** واسترني ما زلت صغيره

كنت بغنائك تبعث فيهم المتعة النفسية فتذكرهم بالأعراس التي كانت تردد بها هذه الأغاني.

*  *  *

   وكلما عادت ذكرى يوم الشهيد، تذكرتك يا عزيزي سليمان وتذكرت رفاقك الشهداء الذين ضحوا من أجل جزائر كاملة الاستقلال، ولا استقلال بدون سيادة أداة الهُوية الوطنية المتمثلة في اللغة العربية على سائر مرافق الحياة بالجزائر. وأنا على يقين أن أرواحكم بدار الخلود ساخطة على تهاون السلطة في قضية الهوية وأداتها اللغوية.

   وخير ما أختم به هذه العجالة عنك يا سليمان قصة الوالدة وما فعل بها الجنود المستعمرون .  كانت هذه الوالدة تعاني من فتق سببته لها ضربة بعقب بندقية من ضابط فرنسي علم بأن لها ولدان بالجهاد، فسألها عنهما فقالت له لا أعرف أينهما، فضربها فسبب لها فتقا في بطنها… وبعد الاستقلال قررت إجراء عملية لها ، أدخلتها مستشفى مصطفى وقرر جراح سوري إجراء العملية، ومن المعلوم أن مشتشفيات الجزائر قد خلت تقريبا من الأطباء الاختصاصيين عندما غادر الأطباء الفرنسيون الجزائر بعد الاستقلال، وبقي بها عدد قليل من الأطباء الجزائريين، فقررت الحكومات العربية إرسال جراحين للجزائر تدفع لهم مرتباتهم.

والدول العربية التي لا تملك أطباء كالكويت مثلا تعاقدت مع اطباء عرب يعملون لحسابها بالجزائر. أدخلت والدتنا  المستشفى، وفي يوم إجراء العمليبة حضر الجراح السوري لمرافقة الوالدة لغرفة العمليات فدار الحوار التالي بينهما:

   ـ أسألك يا ابني الطبيب ، إذا لم تجر لي العملية هل أموت بهذا المرض

   ـ لا يا أمي لا تموتين وإنما تعيشين معذبة، تتعبين عندما تسيرين، لا تتحملين حمل شيء ثقيل.

   ـ (خلّيهولي يا ولدي هذا اللّي باشْ نـﭭابل بيه غُدوة وجْه ربّي)، أي دع لي هذا الفتق إنه هو الذي سأقابل به ربي غدا يوم القيامة.

   وتاثر الجراح فدمعت عيناه ، وقال لها:

   ـ تقطع اليد التي تحرمك من جواز سفرك للجنة.

   ولم تجرَ العملية. وعاشت بهذا الفتق إلى ان أدركتها الوفاة

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!