-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

صابون ڤفصة وغسيل حفْصه

صابون ڤفصة وغسيل حفْصه

يتردّد على ألسنة إخواننا في مدينة المغيّر وما حولها مثلٌ شعبيّ خاصّ بناحيتهم يقول: “صابون ڤفصة وغسيل حفصة”. وأرى أن أقرب الأمثلة العربية إليه هو المثل القائل “أحشفا وسوء كيلة”.

  • فالحشف هو أردأ أنواع التمر، الذي لا يأكله الإنسان إلا مضطرا، فكأنه يتجرّعه، فإذا أضيف إليه التطفيف في الكيل أو التخسير في الميزان قيل: “أحشفا وسوء كيلة؟”، فالمثل العربي الجميل ومثلنا الشعبي الأصيل يضربان لأمر اجتمع فيه شيئان؛ فساد الأصل، وسوء العمل.
  • و”ڤفصة” مدينة تونسية تقع في الوسط الغربي من تونس، فهي إلى شرق ولاية “الواد” أقرب، وكان أهلها – وربما مايزالون- يمتهنون صناعة الصابون، الذي عُرف عند الناس بأنه لم يكن من النوع الجيد، فكان الناس إذا ضربوا مثلا للصابون السيء ولكل شيء سيّء قالوا: “صابون ڤفصة”، كما نقورل نحن الآن عن كل شيء غير جيّد: “تايوان”.
  • وأما حفصه فهي امرأة لا تقوم إلى عمل إلا وهي كارهة وكسلة، ويتجلى ذلك الكره والكسل في الطريقة والكيفية اللتين تؤدي بهما ذلك العمل؛ فإذا غسلت ثوبا -مثلا- لا تجتهد في إزالة ما علق به من أوساخ، بل تكتفي بحكه حكا خفيفا، كأنها تخشى عليه أن يتمزق، فإذا نشف ظهر متّسخا كأنه لم يغسل، فكان الناس إذا ضربوا مثلا للعمل السّيّء غير المتقن قالوا: “غسيل حفصة”، فإذا اجتمع في أمر واحد عيبان قيل: “صابون ڤفصة وغسيل حفصه”.
  • إنني أذكر في هذه الأيام هذا المثل كما كانت الشاعرة الفحلة تُماضر بنت عمرو السّلميّة، المشهورة بلقب الخنساء تذكر أخاها صخرا، الذي قُتل في إحدى المعارك، فكانت تقول:
  • يذكرني طلوع الشمس صخرا    وأذكره لكل غروب شمس
  • والفرق بيني وبين الخنساء هو أنها كانت تذكر مزايا أخيها صخر عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ وأما أنا فأشاهد، وأرى رأي العين، وألمس لمس اليد أعمالا سيئة تجلب السّب والشتم لأصحابها.
  • تجري منذ بضعة أشهر في الحي الذي أسكنه -وفي مدينة البليدة عموما- أعمال تبليط الأرصفة، وتهيئة المساحات بين العمارات، وهذا كله شيء جميل، وعمل حسن، ولكن الأمر الذي يذهب هذا الجمال، ويُسيء إلى هذا العمل هو الطريقة التي تنجز بها تلك الأعمال، التي ينطبق عليها تمام الانطباق المثل الذي عنونت به هذه الكلمة؛ “صابون ڤفصة وغسيل حفصه”، فالمواد المستعملة من قوالب تحديد الطرقات، وبلاطات الأرصفة كلها مغشوشة، بحيث لو أن طفلا صغيرا، أو شيخا كبيرا في أرذل العمر، ضرب بكفه بلاطة أو ركل قالبا لهشمهما لسوء صنعهما، ويضاف إلى سوء الصنعة سوء وضع تلك القوالب والبلاطات، ووالله الذي خلق الحبّ والنّوى، وأنزل المنّ والسّلوى، ويعلم الجهر والنّجوى أنه ما يكاد العمال ينتهون من العمل في بعض الأماكن حتى تقتلع البلاطات، وتتكسر القوالب.
  • إذا كنت أنا الأجهل في هذا الميدان قد اكتشفت ما في هذه المواد من سوء، وتبيّنت ما في طريقة العمل من غش، وعوج؛ فكيف لو رآها خبير؟
  • إن أكثر المشاريع في وطننا تتم وتنجز بطريقة “صابون ڤفصة وغسيل حفصه”، أو بأسلوب “كَعور واعط للأعور”، ولهذا تبدو مبانينا، وجسورنا، وشوارعنا، وأرصفتنا قبيحة المنظر، سيئة المخبر. فصرنا نخشى المرور على جسورنا، ونرهب من السكن في عماراتنا، ونخاف أن تتصدع سدودنا فتجرفنا السيول، وعمم ذلك إلى ما نشربه وما نطعمه وما نتداوى به… حتى كأن الآية الكريمة “يُخربون بيوتهم بأيديهم” نزلت فينا.
  • إن سبب هذا الداء الذي استشرى واستفحل في وطننا هو الرشوة، فأكثر الذين يأخذون الصفقات إنما يأخذونها بواسطة “المعارف”، و”دفع المصارف”، فيضطرون إلى تقليل التكاليف في نوعية المواد، وفي طريقة الإنجاز. وقد قرأنا أن مسجد الشيخ أحمد حماني – رحمه الله – بقسنطينة قد تقرر تهديمه، ولما يمض على تدشينه إلا حوالي أربع سنوات، لأن جدرانه قد تصدعت، ويخشى أن يخر سقفه على المصلين. كما قرأنا أن أكثر ما تهدم وتصدع في زلزال بومرداس كان مغشوشا.
  • إن من مبادئ ديننا الحنيف قول رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: “من غشّنا فليس منا”. ويبدو أن أكثرنا -بحسب هذا الحديث الشريف- ليسوا من المؤمنين، لأن أكثر أعمالنا -وفي جميع الميادين- يطبعها الغش، الذي لم تسلم منه لا الامتحانات، ولا الرياضات، ولا الانتخابات، ولا الصناعات..
  • لقد كان المسلمون -عندما كانوا مسلمين على الحقيقة- يحرصون على تجسيد حديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام- القائل: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”، فجاءت أعمالهم آية في القوة والمتانة، وآية في الجمال.. وقد كان غيرنا إذا رأوا عملا متقنا جميلا قالوا: “إنه عمل عربي” (c’est un travail arabe)؛ وأما الآن فلا يطلق هذا اللفظ -خاصة في الجزائر- إلا على كل سيء من الأعمال مظهرا ومخبرا.
  • إن هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا، ويخونون أماناتهم وهم يعلمون، ويغشون في كل أعمالهم إنما يأكلون في بطونهم نارا، وسيكونون في الدنيا من التعساء، ولو امتلكوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وسيكونون في الآخرة من الأشقياء. وقد رأى الناس نهاية بعض هؤلاء المرتشين فكانت نهاية سيئة لا أسوأ منها إلا الطريقة التي كوّنوا بها تلك الثروات، وحازوا بها تلك المناصب والمسؤوليات، وقد سمعت أحد هذه “الكائنات” يقول لصاحبه: لقد كان وسخنا محصورا بيننا (entre nous)؛ ولكنه، الآن، ذاع، وشاع، وصرنا حديث الناس في المقاهي والشوارع، وعلى صفحات الجرائد، وجهل ذلك “الكائن” أن ذلك من علامات السوء.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • جهيد

    السلام عليكم شكرا يااستاذن والله احبك واحب مقالاتك اين مقالاتك يااستاذ اشتقن لها