-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

صراعاتنا الحقائق والأوهام (2)

التهامي مجوري
  • 1717
  • 0
صراعاتنا الحقائق والأوهام  (2)

تناولنا في القسم الأول من هذا المقال، الأسبوع الماضي، كيفية صراعنا مع الغرب في جميع المجالات، في بداية القرن العشرين، واستمرت مع حركة التحررة الوطني، وقد كانت تمثل تلك المرحلة، مرحلة الفكر الإصلاحي الجنينية، ثم مرحلة التحرر الثوري، في أعلى مستويات الاستجابة للتحدي الاستعماري.. ونواصل في هذا القسم كيف انحدر المستوى بعدما استبعد الاستعمار من حلبة الصراع.. ابتداء من التحرر الوطني وبناء الدولة الوطنية.

وبعد تحقق الاستقلال واندحار القوى الاستعمارية، وتسلم النخب الوطنية مقاليد السلطة في البلاد العربية الإسلامية، تحول ذلك الصراع، من صراع بين القوى الوطنية الأصيلة والغرب الاستعماري، بجميع أبعاده ومنها الأبعاد السياسية والعسكرية، إلى صراع بين أجنحة القوى الوطنية، التي كانت فيما مضى متنافسة على تجسيد الكيفية الأنجع والانجح لتحقيق الاستقلال، إلى قوى متصارعة استولت فيها القوى العلمانية على السلطة، وبعض القوى الوطنية والقومية المنبهرة بالتوجه العلماني، وبقيت القوى الوطنية الأخرى، الإسلامية وغيرها من القوى المعارِضة للسلطة، خارج الحلبة ومراكز القرار، ولم يكن بطبيعة الحال كل العلمانيين في السلطة، ولا كل الإسلاميين خارجها، حيث أخذ الصراع شكلا آخر، وهو الصراع على السلطة، ولم يطَّرد الصراع بالشكل والمضمون، الذي كان عليه أيام الحركة الوطنية القومية، الإصلاحية والثورية، بنفس المستوى والقوة، ولا أدل على ذلك من سلسلة الانقلابات التي شهدها العالم الإسلامي، خلال سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والإغتيالات وتهجير النخب المعارضة.

ولكن بقي هناك صراع حقيقي بأبعاده الحضارية تبنته بالأساس، الحركة الإسلامية من جهة، والسلطات الحاكمة من جهة أخرى، الأولى تمثل الامتداد الطبيعي للحركة التحريرية الاستقلالية، الذي يعتبر أن الاستقلال لم يكتمل، ولا يكتمل ما لم تكتمل السيادة على الفكر والثقافة ومنظومة المجتمع في الحكم والتربية والاقتصاد…، وما دام الغرب لا يزال يهيمن بمناهجه في المجتمع والحكم والتربية والثقافة والإعلام بنظمه الاقتصادية والاجتماعية فلا استقلال حقيقي هناك. 

اما الثانية فربما كانت تنظر إلى الاستقلال الوطني على انه تحقق بمجرد الانتصار العسكري على الاستعمار، ثم بعد ذلك لا مانع من تبني طروحاته في الحكم والتربية والثقافة والإعلام والنظم الاقتصادية والاجتماعية، وربما اعتبرت القوى التحررية تبني النهج الاشتراكي رافدا للإستقلال، باعتبار أن اليسار كان داعما لتقرير مصير الشعوب، في حين أن اليسار واليمين الغربيين ينهلان من مشكاة واحدة، قد يتفهم بعضه “العدالة الاجتماعية”، ولكن جوهر الفكر والثقافة والنظم واحد، ولذلك اعتبرت الحركة الإسلامية أن الدولة الوطنية لا يمكن ان تتمتع بالاستقلال إلا بالقدر الذي يواصل فيه الفعل التحرري طريقه النضالي، بالاسلوب الذي يناسب مرحلة ما بعد الاستقلال؛ لأن ما حققته الحركة الوطنية، لا يمثل إلا الاستقلال العسكري وهو ليس إلا بداية للإستقلال الحقيقي.

ولكن توجه السلطة الوطنية، بدلا من ان يواصل طريقه النضالي، بتعبئة جميع القوى الوطنية التواقة للتحرر من الإستعمار والفكر الاستعماري الصراعي التسلطي، نحا منحى كاد يحقق به ما عجز عنه الاستعمار نفسه، وهو السعي إلى مسخ الشخصية الوطنية بأبعادها الاجتماعية والثقافية والدينية.

والذين بقوا خارج السلطة يترقبون أو يعارضون أو يصارعون، وهم كثيرون، منهم الإسلامي ومنهم القومي ومنهم الوطني غير المؤدلج.

ومنهم المؤدلج جزئيا أي لا يسحب الأيديولوجيا خارج إطار المصالح الاقتصادية والاجتماعية، وهؤلاء لا يعيرون اهتماما للأبعاد الفكرية والعقدية، ولذلك رأينا الكثير منهم يناضلون في صفوف اليسار ويصلُّون ويدافعون عن الإسلام وقيمه، ولهم غيرة على قانون الأحوال الشخصية الإسلامية، وما تبنوا اليسار إلا لأنهم اعتبروه مناصرا للشعوب المستعمرة ورافعا للواء المطالبة بتحقيق العدالة الإجتماعية، ولكن لما سقط القناع عن اليسار الأيديولوجي، وكشفت عورته الغربية المتغطرسة، التي لا تختلف كثيرا عن الغرب الرأسمالي، عاد الكثير منهم إلى البحث في الهوية من جديد ليكتشف ذاته التي هي غير الغرب.

وبدلا من كل ذلك، وبدلا من أن يبقى الصراع “غربيا شرقيا” كما كان أيام الحركة الإصلاحية الثورية الوطنية، تحول إلى صراع داخلي بين فئات الحركة الوطنية، بين من هم داخل السلطة ومن كانوا خارجها، وبين الإسلاميين تحديدا والسلطة، وبلغ الصراع أعلى مستوياته من الصدامات الدامية، جوهرها “الدولة الإسلامية، مقابل الدولة العلمانية”، وهي صورة من صور المشكلة الجوهرية الأساسية، التي نشأت مع سقوط الحضارة الإسلامية، وغزو الغرب لبلاد المسلمين. فهو صراع بين الشرق والغرب بكل أبعاده، وظاهره إسلاميون في مواجهة سلطة قائمة تملك شيئا من الشرعية الثورية او التاريخية.

واستمر هذا الصراع الذي عمقته القوى المستفيدة من هذا التشرذم، فصورت الدولة الإسلامية التي تواجه السلطة الوطنية، بالدولة الظلامية المستنسخة من تاريخ الدولة الدينية، مقابل الدولة العصرية التي تتناغم وروح العصر، فحصد الصراع مئات الآلاف من الأرواح، المجاهدة والمناضلة في سبيل إنشاء الدولة الإسلامية، والعاملة على حماية الدولة الوطنية أو حماية السلطة والنظام السياسي.

وعدما نعرض لتجربة الدولة القومية الوطنية، التي لم تتنصل من جذور الثقافة والفكر والدين، في مواثيقها ورزمها القانونية ودساتيرها، فإن هذه التجربة لم تكن حريصة كل الحرص على تجسيد تلك المواثيق، او كانت في أحسن الأحوال مغلوبة على امرها، بقدر ما كانت تحرص على تصنيف الحياة السياسية إلى موالين وخصوم.. فنتج عن ذلك الاصطدام الحتمي مع كل الخصوم، سواء الذين عارضوا طبيعة نظام الحكم او الذين عارضوا جوهر النظام العقدي وأبعاده الثقافية، وقد عبر الزعيم الجزائري عباس فرحات رحمه الله، على هذا الوضع بعد الاستقلال بعنوان لأحد كتبه “الاستقلال المغتصب”، ويقصد بهذا الاغتصاب أنه لم يحقق الاستقلال الثمار المرجوة؛ لأنه مغتصب من قبل طرف سياسي أو عسكري في الساحة.

وهذا التصور يمكن تعميمه على كل العالم العربي وجل العالم الإسلامي، فتجربة الضباط الأحرار في مصر وما بعدها، وثورة العشرين في العراق وما بعدها، والثورة السورية وما بعدها، كلها كانت تحكمها نفس المعادلة، في العلاقة بين الطوائف السياسية والتيارات.

بل إن دول الخليج التي هي نظم ملكية، ونمط الحكم فيها واحد، فإن جوهرها واحد لا يختلف عن غيره في جمهوريات العالم العربي، ولكنها كانت مستورة العورة بسبب التوافق القبلي ووفرة المال، ولكن سرعان ما سقط هذا الستر مع انكشاف الأزمات الاجتماعية واهتزاز الهوية بهذه المنطقة، واهتزاز مؤسسة الحكم، وازدادت ظهورا في المرحلة اللاحقة التي عمت حركة المجتمع برمته، بحيث بدأنا نسمع عن معارضة في السعودية، ونقد لنظم الحكم في غيرها، وحراك سياسي واحتجاجات وما إلى هنالك من الأمور التي توحي بالاضطراب.

في هذه المرحلة تحول عالم الجمهوريات، الذي كانت تحكمه معادلة السلطة وخصومها، والتي كان أظهرها “الإسلاميون في مواجهة السلطة”، إلى صراعات في مساحات أضيق، بسبب فشل المجتمع الإسلامي في تجاوز “محنة الاستقلال” رغم فوزه في “محنة الاستعمار”، فقد فشلت السلطة في إقامة دولة الاستقلال المرجوة، وفشل المجتمع في فرض قيمه على السلطة التي تحكمه، فتولد عن هذا الواقع مستوى من التمرد، بحيث ساد التجاهل، بدل تبادل التفاهم والمصالح، والبحث في معالجة المشاكل هنا وهناك، فلا السلطة احترمت الشعب واعترفت له بما يستحق، ولا الشعب اعترف بها كجهة تفكر في مصيره…، فانبنى على هذا الواقع ما يعرف باضطراب الهوية الذي كان بداية للتمرد المؤسس والمبرر، إلى أن ضاع معه كل شيء.

وهذا ما يفسر تشرذم جميع الأطراف وانقسامها على نفسها، فالسلطة لها أطراف متعددة بأسماء ومسميات مختلفة، والتيارات جميعها منقسم على نفسه بأسماء ومسميات، التيار الإسلامي أقسام، والتيار العلماني أقسام، والتيار الوطني أقسام، وكل قسم من هذه الأقسام له ما يقول في غيره من خصومه وزملائه.

وهذه الأقسام ليست منقسمة انقسامات تكتيكية، بحيث يبقى بينها روابط ومشتركات، وإنما هي أقسام متصارعة فيما بينها، كما كانت السلطة تتصارع مع خصومها قبل زمن قصير، وكما تصارع الاستعمار مع قوى الحركة الوطنية من قبل.   

تلك هي صراعاتنا خلال قرن من الزمان بحقائقها وأوهامها.

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!