الرأي

صفحة مطوية من فضائل الحركة الإسلامية في الجزائر

التهامي مجوري
  • 2263
  • 5

عندما اندلعت الأحداث في مصر وتونس، فيما عرف بحراك الربيع العربي، وذهبت بطاغيتين متميزين في العالم العربي والإسلامي، التقيت بزميلين، احدهما من المشرق والآخر من المغرب، وكلاهما من المتعاطفين مع التيار الإسلامي، فقالا لي الآن جاء دور الحركة الإسلامية في الجزائر، لأنها المؤهلة للقيام بدور فعّال في المنطقة وفي العالم؛ لأن تجربة الجزائر كما قالا لي نوعية وهامة، ولأنها تتكلم بلغة يفهمها العالم والغرب تحديدا.

 استمعت لهذا الكلام، وتفهت بعض ما ألمح إليه الزميلان، من خصوصيات للحركة الإسلامية في الجزائر، ولكني لم اطمئن كل الاطمئنان، لجدوى تلك الخصوصيات؛ لأن طبيعة المشكلة في العالم الإسلامي واحد، سواء من جانبها الاجتماعي وما يندرج تحته مما لا نهاية له من مظاهر التخلف، او من جانبها السياسي وما يحمل في طياته من أشكال الاستبداد المتنوعة، ومع ذلك رحت أفتش عن أثار تلك الخصوصيات المشار إليها لعلي أصل إلى واجبات وفضائل زائدة في المجتمع الجزائري والحركة الإسلامية فيه، غير التي هي على باقي العالم الإسلامي.

لا شك أن للحركة الإسلامية في الجزائر خصوصيات، قد لا توجد في غيرها، أو على الأقل لا توجد بنفس الصورة التي هي في غيرها من بلاد المسلمين. فتجربة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست في سنة 1931م، لها خصوصية لم تكن في غيرها من حركات العالم الإسلامي، حيث كانت خطتها إعادة صياغة الفرد الجزائري المسل، الذي أرادت فرنسا مسخه، فلم تضع في برنامجها أن مشكلة الأمة سواء في الجزائر أو في غيرها  مشكلة سياسية مثلا؛ بل اعتبرت أن المشكل حضاري، يمس جميع ما يتعلق بالإنسان، في عقيدته وفي أخلاقه وفي سلوكه وفي أسلوب تفكيره، ولذلك لم تعتبر الجمعية سقوط الخلافة الإسلامية خسارة كبيرة للأمة؛ لأنها ترى أن الأمة سقطت قبل ذلك بقرون، يوم استشرت الخرافة والبدع وساد التقليد والخضوع للكبراء سياسيين وأصحاب طرق، على خلاف تجربة الإخوان وحزب التحرير مثلا، اللتان تعتبران أن تجربتهما قائمة على إعادة الخلافة أساسا، على اختلاف تصور كل منهما للموضوع، وتضاف إلى تجربة العلماء، اجتهادات مالك بن نبي، المفكر الجزائري المسلم، الذي يعد المؤسس للخط الحضاري في الحركة الإسلامية، الذي كان يتطلع إلى بعث للأمة، وذلك لا يتحقق عن طريق “الماكياج السياسي” الذي أطلق عليه مصطلح “البوليتيك”، وإنما عن طريق إعادة صياغة الإنسان، فيما يتعلق به من حيث هو إنسان؛ لأن الإنسان الذي فقد مكوناته البشرية كعضو في المجموعة البشرية، صاحب رسالة وفاعلية وقيم، لا يصلح لأن يكون، مسلما أو نصرانيا أو يهوديا، فضلا عن أن يكون نافعا لغيره من بني جنسه؛ لأنه فاقد لمقومات الإنسان العادي.

وهذا التصور هو لب حركة الإصلاح في العالم الإسلامي، التي انطلقت مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وقبلهم بقليل حركة محمد بن عبد الوهاب.

إن حركة الإصلاح والتغيير لم تتوقف منذ البعثة النبوية الشريفة؛ لأن الطبيعة الحركية للإسلام تأبى الركود؛ بل إن مبناها في الأساس على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله)، والمعيار او المقياس الذي يقاس به واقع الأمة هو المنهج الذي سارت عليه الأجيال الثلاثة الأولى وهي جيل الرسول صلى الله عليه وسلم والذي بعده والذي بعده؛ لأنها الأجيال التي طبقت الوحي وفق مراد الله.

والتجربة الجزائرية كانت متميزة بالفعل، وفق طروحات جمعية والعلماء واجتهادات بن نبي، بما اهتدت إليه، وربما يعود “الفضل” في ذلك لطبيعة الاستعمار الاستيطاني، الذي يمثل التحدي الكبير للأمة، حيث كان يهدد الوجود الجزائري في أصوله، في لغته وفي دينه وفي نظمه التربوية والسياسية، فكان ينبغي على الجزائريين ومنهم التيار الإسلامي، أن يركز على الحفاظ على وجوده المهدد بالنسف، بعرقلة المنهجية التي انتهجتها فرنسا في مسخ شخصية الجزائري، وشعار جمعية العلماء في ذلك “الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا”.

وجمعية العلماء واجتهادات بن نبي، التي تعد هي البذور الأساسية للحركة الإسلامية في الجزائر، كانت متميزة في منهجيتها وقراءتها لمشكلات العالم الإسلامي، عن جميع الحركات التي نشأت في العالم الإسلامي، ومن ثم كانت من بين الحركات القليلة التي استمرت على نهج حركة الإصلاح التي بنت رؤيتها على إعادة صياغة الأمة من جديد، بعدما فقدت ملامح شخصيتها وبريقها.

ولكن هذا التميز لم يستمر، بسبب تغييب جمعية العلماء التي منعت من العودة إلى النشاط بعد الاستقلال، كما كان التضييق على مالك بن نبي الذي لم تسمح له الظروف بأكثر من عقد ندوة أسبوعية في بيته، أو إلقاء محاضرة في بقعة ما يدعى إليها، ومن ناحية أخرى زوال التحدي الاستعماري المباشر وظهور تحدي آخر موهوم، وهو النظم الاستبدادية القائمة، التي هي امتداد لنظم الغرب في توجهاتها، ومن ثم حرمت الجزائر والعالم الإسلامي من تجربة إسلامية رائدة، كان يمكن أن تساهم في تطوير الخطاب الإسلامي وبناء الدولة الوطنية.

ولكن التحدي الجديد الذي ظهر في الصراع بين النظم الوطنية والقومية في العالم العربي والإسلامي، وبين تيارات الحركة الإسلامية، وقف عائقا دون مواصلة رسالة الإصلاح بالصورة التي كانت عليها جمعية العلماء ولا برؤية مالك بن نبي؛ بل وضع الحركة الإسلامية في مواجهة دائمة مستمرة بين الحركة الإسلامية والنظم القائمة، ولعل أظهرها وأبرزها ما وقع بين الإخوان ونظام عبد الناصر، الذي ألقى بظلاله وضلاله على سائر بقاع العالم الإسلامي، ومنه الجزائر، فقد ذكر ذات مرة الرئيس هواري بومدين رحمه الله في خطاب له جماعة الإخوان وما وقع لها مع عبد الناصر ولم يتردد في اتهامها بالعمالة للأنجليز، وكذلك عوملت الحركة الإسلامية في الجزائر.

مقالات ذات صلة