-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ضرورة بعث قطب حضاري إسلامي

محمد شيدخ
  • 466
  • 0
ضرورة بعث قطب حضاري إسلامي

يعتبر كتاب “شروط النهضة” للأستاذ المفكر مالك بن نبي رحمه الله بمثابة المشروع الاساسي في فكره من حيث احتوائه على جل الخطوط العريضة التي جاء بها في اطار المنظور الحضاري الذي طرحه لتشخيص ومعالجة مشكلة الحضارة في العالم الإسلامي عموما. وقد كان الأستاذ مالك بن نبي أول من اوجد وأودع منهجا مجددا في بحث مشكلة واقع المسلمين المرير على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ.

وبحكم وجود الأمة العربية الإسلامية إمام ضروريات وإلحاحات عصرية كبيرة بل تحديات خطيرة، حث بن نبي على إعطاء مساحة واسعة من الاهتمام الانساني لكل ما يمكنه أن يتجلى في مساحة النشاط  العملي الانساني الذي يتصل أساسا بالدين والأخلاق والحضارة ككل بتجاوز وتخطي الاهتمام المفرط والزائد بمجال الفكر العام والمفاهيم الفلسفية العميقة إلى مجال الحركية الإنسانية الفعلية والمنسقة لبناء حضاري متكامل وناجح بعد أن شهد العالم ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين تطورا تكنولوجيا واقتصاديا رهيبا استثنى العالم العربي الإسلامي.

ومن العهد المملوكي الذي سماه البعض “عهد الموسوعات” وكان غالبية الكتاب يفتخرون به على أساس أنه بمثابة عصر ذهبي جديد ظهر فيه العالم “شهاب الدين النويري” و”جلال الدين السيوطي” إلى جانب “ابن حجر العسقلاني”… إلا أنه أسس لبداية انهيار الحضارة الإسلامية وكل الموسوعات الضخمة التي كُتبت آنذاك لم تأت بشيء جديد بل كانت هناك عملية تجميع لبعض التراث المكتوب سابقا في شكل موسوعي بدون إضافة تُذكر أو إبداع ينشر، هذا الإبداع الذي توقف في شتى العلوم بداية من القرن الخامس الهجري الى غاية القرن الثامن الهجري الذي شهد توقف العطاء الفكري الإبداعي في مجال اللغة والعلوم الدينية وأضحى عطاء الأمة ضعيفا ميتا، فمنذ بداية القرن الثامن الهجري الى اليوم لم يسجل العالم الإسلامي العربي أي إضافة فكرية إبداعية ذات بال سواء بضروراتها أو بمواكبتها لإملاءات عصرها أو حتى بحجمها إذ يعتبر كل ما دُوِّن في هذه الفترة عبارة عن إعادة صيغ ما كتب من قبل او تكرار ذكره بأساليب متنوعة وبقي جل كتابنا يدرسون ويعلمون ويحللون ما كتبه من سبقهم اعتقادا منهم بكمال التراث وتمام علومه حتى فقد العقلُ العربي الإسلامي القدرة على الابداع مع نهاية القرن الثالث عشر الميلادي أي في عصر ما بعد الموحدين حسب الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله ومواكبة لحقبة الدولة المملوكية، ولم يسجل المسلمون أي حركة نهضوية منذ هذا التاريخ الى غاية بداية القرن التاسع عشر الميلادي (1812) أو أواخر القرن الثامن عشر الميلادي حسب المؤرخ الانكليزي ذي الأصول اللبنانية والمتخصص في تاريخ العرب والشرق الأوسط “البرت حبيب حورابي” إذ برزت حركة تنويرية عربية كانت بمثابة مشروع النهضة العربية في أحوالها الفكرية والاجتماعية والتي سادت أساسا مصر ولبنان وامتدت لتشمل عديد العواصم العربية الأخرى، وكانت الجزائر إحدى حواضرها الهامة من خلال أعمال ونشاط جمعية العلماء المسلمين برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله.

تميزت هذه الحقبة التي دامت حوالي 141 سنة حسب اغلب المؤرخين وأطول من ذلك حسب البعض، بانتشار الطباعة وظهور الصحافة ودور النشر والتوسع في إنشاء المدارس والجامعات مع إحياء التراث العربي الإسلامي وتحقيقه وبروز ما سمي بالصحوة الإسلامية، ونهضت خلال هذه الفترة اللغة العربية من كبوتها التي عرفتها في عصر الانحطاط  إلى جانب تفاعل الأدب العربي مع الأدب الغربي تفاعلا عميقا أدى إلى ظهور فنون أدبية جديدة لم يكن لها وجودٌ من قبل كالأقصوصة والرواية والمسرحية.

إنّ انتشار المعرفة وتبلور الإبداع شرطان متلازمان أساسيان لتحقيق قاعدة الانطلاقة النهضوية الشاملة وهو العنصر المغيب على العقل العربي الاسلامي خلال فترات الانحطاط الفكري والانكماش الحضاري الرهيب الذي تعيشه الأمة منذ القدم، ولا ننسى هنا الإشارة الى ضرورة وجود قوى فاعلة نشطة في المجتمع تؤطرها الأخلاق أو الفكرة الدينية مهما كانت، فدور هذه الفكرة محوري حتى لو كانت الفكرة الدينية غير كاملة أو ناقصة كما عند الغربيين، إلا أنها كانت بمثابة الشعلة لدفع الشعوب نحو تحقيق حضارتهم، فحتى خلال العصر الوسيط في أوروبا المتميز بتشتت العمل السياسي أو الإداري وتراجع مفهوم الدولة أو الحاكم وانقسام اجتماعي بين طبقة الأسياد وفئة المستضعفين، لكن نجد منظومة فكرية في طور التبلور قائمة على الروح الدينية تستمد نهجها من الكنيسة وهي المعول الذي أسس فيما بعد لظهور المبدأ الإنساني بكل فلسفته وأبعاده التي كانت الحجر الاساس لظهور النهضة الأوروبية كلها.

ونظرا لكون الحضارة هي التي تكدس منتجاتها وليس المنتجات هي التي تنتج الحضارة من جهة،  ومن ناحية أخرى فإن ذروة الوعي الثقافي الانساني هي ضرورة تجسيد ثقافة الائتمان على جميع المخلوقات في إطارها وبعدها الإنساني الشامل والراقي، وتدخل هذه السياسة الاجتماعية الواعية وغير النمطية في خانة واجبات المثقف الواعي برهانات عصره والمخاطر المحدقة به مما يؤهلنا لانتداب ثقافة الائتمان في اطار التعامل الايجابي للإنسان مع أخيه الانسان في محيطه “المؤانسة” ومع أبناء جلدته في البلدان الأخرى “المعالمة” قال تعالى “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”، ونظرا لمقام الإنسان الجوهري في الاسلام من حيث خاصيته الكبرى وهي فرادة الإنسان بين مخلوقات الله عز وجل لكون ذاته عارفة “وعلَّم آدم الأسماء كلها” ومن حيث موقعه المتميز في المعادلة الكونية “وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة” ومكانته الخاصة جدا بين الكائنات “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس” كل هذا يصب في قالب احترام النوع الإنساني وتكريمه والحفاظ عليه.

لأجل كبح جماح هذه السياسات ينبغي تدخل أصحاب الشريعة الصحيحة التي أسست للدين والدنيا معا تكريسا للعقلانية وتهذيب الإنسان  ووضع ضوابط تخدم البشرية ولا تضرها، وهذه الخاصية ينفرد بها الإسلام ويحملها المسلمون مما ينبغي لهم الرجوع إلى التاريخ والمساهمة الكبيرة والقوية في البناء الحضاري الأخلاقي المنضبط لإنقاذ العالم من كوارث محدقة قد يكون كوكبنا ميدانا لها في المستقبل القريب.

ومن هذا المنطلق ونظرا للمخاطر المحدقة بالبشرية وبالكوكب الأزرق والتي نعاني من بعضها الآن والتي نخشى ظهور البعض الآخر في المستقبل القريب، فإننا نعاني كثيرا من التلوث ومن التغيرات المناخية التي قد تجلب الكوارث لكوكبنا، فالأمطار الحمضية وتلوث الهواء والماء وأضرار الامتداد العمراني ومشكلات التخلص من النفايات بشتى أنواعها وخاصة الطبية والنووية منها مع بداية استنفاد طبقة الاوزون كلها أثرت على الإنسان والحيوان والغابات وتسببت في فيضانات مفاجئة وأمواج تسونامية وكذا أعاصير جد قوية مع بروز أمراض خطيرة مست جل دول العالم.

وللعلم، فبالرغم من هذا التطور الكبير، فإن البشرية لم تلج بعد عالم التقنيات الخطيرة والرهيبة بكل آثارها وخطورتها على حياة الإنسان ووجوده بل هي على أبواب ذلك، فما يحدث اليوم في عديد المخابر العالمية في مجال دراسات الجينوم الإنساني وكل تقنيات الهندسة الجينية الوراثية وتقنيات استعمالات الخلايا الجذعية من شأنه أن يحدث تحولا وانحرافا رهيبا ومفزعا وخطيرا في حياة الانسان مما يعصف بما لا شك فيه بالبنية الاجتماعية  للإنسان مهددة الامن العالمي على نطاق واسع خاصة إذا تمت هذه الدراسات والتجارب والممارسات بدون ضوابط وروادع أخلاقية حاسمة، لأن تحريف البنية التحتية لطبيعة الإنسان من الناحية الشكلية والفيزيولوجية قد تتوارثه الأجيال،  فلن يكون الانسان كما أراده الله كامل الخلقة حسنها بما يتلاءم مع معيشته الاجتماعية والعاطفية، ويؤثر هذا على كل الحيوانات والنباتات المحرفة جينيا، وتجربة الأطفال الذين ولدوا بالصين عن طريق تغييرات جينية بالرغم من بعض التحذيرات لخير دليل على انفلات الأمور وخضوعها للمصالح الخاصة “تحسين وتقوية الجنس البشري”  قصد تحقيق مردود عال في الفكر والعمل حسب برامجهم.

ولأجل كبح جماح هذه السياسات ينبغي تدخل أصحاب الشريعة الصحيحة التي أسست للدين والدنيا معا تكريسا للعقلانية وتهذيب الإنسان  ووضع ضوابط تخدم البشرية ولا تضرها، وهذه الخاصية ينفرد بها الإسلام ويحملها المسلمون مما ينبغي لهم الرجوع إلى التاريخ والمساهمة الكبيرة والقوية في البناء الحضاري الأخلاقي المنضبط لإنقاذ العالم من كوارث محدقة قد يكون كوكبنا ميدانا لها في المستقبل القريب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!