-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

طالبان أخرى منتظَرة في أفغانستان!

طالبان أخرى منتظَرة في أفغانستان!

طالبان رقمٌ محيِّر في المعادلة الأفغانية، فهي الحركة التي تختفي من المشهد السياسي في أفغانستان ولا تنتهي، فقد حكمت بين 1996 و2001 ثم زُحزحت ثم عادت في هذه الأيام ومسكت بزمام السلطة في أفغانستان بعد أن سحقت خصومها السياسيين. لكن قبل أن تصبح طالبان رقما محيرا في المعادلة الأفغانية، كانت أفغانستان قبلها رقما محيرا في المعادلة الدولية، فأفغانستان هي مقبرة الغزاة فلا تطؤها قوة غازية إلا عادت أدراجها، فالشعب الأفغاني شعبٌ مناهض مقاوم لا يقبل الاستبداد والاستعباد، وسيرة جمال الدين الأفغاني تعكس سر هذه الصلابة في الشخصية الأفغانية، فعقب الحرب الأهلية التي أطاحت بالملك محمد خان وسيطرة شير خان على كابل بدعم بريطاني، أدّى جمال الدين الأفغاني دورا كبيرا في التنكير على شير خان، وهو ما دفع الإنجليز إلى التضييق عليه ومحاصرة بيته، مما اضطره إلى الرحيل إلى الهند ومنها إلى مصر.

لا يُنكر جهد جمال الدين الأفغاني في الإصلاح الديني والسياسي وهو الجهد الذي أثمر بعد عقود في صورة الجهاد الأفغاني ضد المحتل السوفييتي، فقد قرأنا وسمعنا ونحن شبانٌ يافعون عن بطولات وكرامات المجاهدين الأفغان التي لا تختلف كثيرا عن بطولات وكرامات الرعيل الأول من المسلمين، بطولات وكرامات وثقها شهود عيان ولكنهم أضافوا إليها ما لا نطمئنُّ إلى صحته من شاكلة ما رواه بعضهم من أن المجاهد الأفغاني كان يمسك بحفنة من التراب فيرميها على الدبابة السوفيتية فتنفجر بمن فيها، فهذه معجزة خصَّ اللهُ بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا تنبغي لأحد من بعده، فقد جاء في كتب السيرة النبوية أن سلمة بن الأكوع، قال  غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فولى صحابة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلما غشوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ  الله عينيه ترابا بتلك القبضة، فولُّوا مدبرين، فهزمهم الله، وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين”.

تسارعت الأحداث في أفغانستان وآلت مقاليد الحكم إلى حركة “طالبان” التي تشكلت نواتها الأولى من طلبة الكتاتيب الذين دخلوا الحرب بوسائل حربية بدائية في مواجهة ترسانة حربية سوفييتية لا قِبل لهم بها، لم يكونوا يملكون من العُدَّة العسكرية شيئا ولكنهم كانوا يملكون في المقابل عقيدة إيمانية لا تتزعزع وهذا سرُّ تفوُّقهم على عدوِّهم. ما يميز حركة طالبان هي روح الاتحاد والتماسك ونجاحها في كسب تعاطف الشباب المسلمين حيث انضمت أعدادٌ كبيرة منهم إلى صفوفها.

نتجاوز طالبان التاريخية التي رُويت حولها حكاياتٌ أقرب إلى الخيال جعلت منها حركة إسلامية غير قابلة للاستنساخ في المجتمع الإسلامي، ونركز على طالبان الحالية التي يؤكد قادتها بأنها لازالت محافِظة على خطها الإسلامي الأصيل الذي خطه المؤسسون الأوائل، في حين يؤكد خصومها بأنها قد خرجت عن هذا الخط وتحوَّلت إلى حركة هجينة تجمع بين الخط الإسلامي والخط الديمقراطي، لم يكن هذا-حسبهم- اختيارا من طالبان بل واقعا محتوما فرضته بعض المستجدات التي مرَّت بها الحركة التي وجدت نفسها في فترة من الفترات وحيدة في الميدان بعد أن تخلى عنها الداعمون والمتعاطفون الذين مالوا طوعا أم كرها إلى المعسكر الغربي حفاظا على مصالحهم القومية.

هناك من أجحف في حق طالبان واتهمها بالارتماء في أحضان الأمريكان من خلال صفقة بينها وبين الأمريكان تتلخص في تعهُّد واشنطن بالانسحاب من أفغانستان وتسليم الحكم لطالبان مقابل التزامها بمراجعة عقيدتها السياسية والتخلي عن راديكاليتها واحترام حقوق الإنسان وقبول الديمقراطية التي كفرت بها لعقود واعتبرتها رجسا من عمل الشيطان. وهذه في الحقيقة مجرد تخمينات مبنية على التأويل وعارية عن الدليل، فطالبان في نظري لا يمكن أن تنزل إلى هذا الدرك من التنازلات المذلة لأن العارفين بخبايا هذه الحركة يدركون بأنها ليست من الصنف القابل للتطويع، بل على العكس من ذلك، تميل أغلب التحليلات السياسية إلى أن الظاهرة الطالبانية تكاد تكون ظاهرة فريدة في عالم الحركات الإسلامية، لأنها الحركة التي استطاعت الصمود في وجه التحالفات الغربية ولم يثنِها هذا عن عقيدتها، وكذلك الحركة التي ذهبت إلى المفاوضات مع الحكومة الأفغانية المخلوعة من موقع قوة وليس من موقع ضعف، ويكفي دليلا على ذلك أنها  قبلت الجلوس إلى طاولة المفاوضات وهي تسيطر على مساحة كبيرة من أفغانستان.

هناك أسئلةٌ تفرض نفسها بإلحاح ونحن نتحدث عن طالبان الحاكمة: هل ستبقى طالبان الملالي المنطوية على نفسها أم سنشهد ميلاد طالبان أخرى مؤمنة بالديمقراطية ومنفتحة على غيرها؟ وهل ستتغير نظرة حكام أفغانسان الجدد إلى قضايا المرأة وغيرها؟ وهل سيُحدث هؤلاء الحكام مفاجأة في العهد القريب أو البعيد بشأن علاقتهم بأمريكا وأوروبا وإسرائيل؟.

حسب موقع قنطرة Qantara.de  فإن طالبان تعهَّدت بحكمٍ مختلف من خلال مبادرتها إلى إصدار العفو العام والتعهد بعدم الثأر من خصومها السياسيين وببدء عهد جديد مختلف تماما عما كانت عليه قبل عشرين سنة قوامه احترام حقوق الإنسان ومراجعة وضع المرأة في الحياة العامة والحياة السياسية. ونقل ذات الموقع عن المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد أن النظام الجديد في أفغانستان الذي تقوده طالبان سيكون نظاما مختلفا تماما، وهذا يعني بقراءة سياسية بسيطة أن طالبان ستتخلى عن راديكاليتها وستقوم بمراجعة بعض التشريعات التي صُنفت بموجبها من قبل أمريكا والدول الأوروبية على أنها حركة ذات سجلٍّ سيِّئ في مجال احترام الحريات.

وقطع ذبيح الله مجاهد الشك باليقين بشأن التوجُّه الجديد للحركة إذ أكد على ضرورة الفصل بين العقيدة الدينية والعقيدة السياسية وقال في هذا الشأن: “إذا كان السؤال يستند إلى العقيدة والمعتقدات ليس هناك اختلاف، لكن إذا كان يستند إلى الخبرة والنضج والبصيرة، فمن دون أدنى شك هناك أوجه اختلافٍ كثيرة”.

ما يهمنا في الحديث عن طالبان الجديدة –إن صح التعبير- هي عقيدتها السياسية وليس عقيدتها الدينية؛ لأن العقيدة الدينية لطالبان ليست محل نقاش أو تفاوض، وحتى في حالة ترجيح فرضية إبرامها لصفقة مع الولايات المتحدة الأمريكية ضمن مبدأ الحكم مقابل الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن العقيدة الدينية لم تكن ولن تكون مادة للتفاوض السياسي، فلا تهم أمريكا عقيدةُ طالبان الدينية بل تهمها أولا وأخيرا عقيدتها السياسية التي لا تمس بالمصالح الحيوية لأمريكا.

لم يتردد الرئيس الأمريكي جو بايدن في التأكيد على أن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لها ضلعٌ في التغيير السياسي الذي حدث في أفغانستان وفي التأكيد أيضا على أن طالبان وحدها هي التي تعلم ماذا تريد أن تفعل، إذ قال في هذا الشأن على نحو ما أورده موقع شبكة الجزيرة: “أعتقد أنهم يمرُّون بنوع من الأزمات الوجودية بشأن ما إذا كانوا يريدون أن يعترف بهم المجتمعُ الدولي باعتبارهم حكومة شرعية. لست متأكدا من أنهم يريدون ذلك”.

إن بقاء طالبان على عهد الملالي أو تشكُّل طالبان أخرى في أفغانستان برؤيةٍ سياسية جديدة فرضيتان قائمتان، لكننا لا نستطيع الحسم أيهما ستتحقق؟ فالحكم الطالباني الجديد في بداياته وعلينا أن ننتظر بضعة أشهر حتى يستقرّ المشهد السياسي ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!