الرأي
في صحبة موسى والخضر

عالم الشّهادة ذرّة في بحر عالم الغيب

أبو جرة سلطاني
  • 1632
  • 4

في قصّة موسى -عليه السّلام- مع الخضر -رضي الله عنه- تقرير واضح أنّ عالم الشّهادة لا يمثّل من عالم الغيب إلاّ كما تمثّل قشرة الأرض بالنّسبة لما تحت ثراها، وهو ما لم يستطع موسى -عليه السّلام- عليه صبرا؛ فهو كشفٌ لما خلف أسداف العالم المشهود، كشْف ربّاني يجعل الفعل غير مظروف في تراتبيّة الزّمان والمكان، فهو حدث مقدّر لم يبده الله بعد. وهو العلم الذي لو قدّر الله أن يحكم حركة الحياة لانتفتْ سنن كثيرة، ولصار الغيب شهادةً لا تحتاج إلى اجتهاد ولا إلى ابتلاء أو انتظار ما سيكشف عنه الله الحكمةَ المحجوبة عن النّاس.

 لو أراده الله ذلك لقرأ كلّ مولود مستقبل حياته في سجلّ مرقوم لا تحيد عنه حركته قيْد أنْملة، وعندئذ يتغيّر مفهوم الخير والشرّ والحسْن والقبح والمعروف والمنكر والصّلاح والفساد، ويصبح الإنسان آلةً مسيّرة خاضعة “لبرنامج لدنّي” مسطّر من يوم ميلاده إلى يوم وفاته، يراه بعينيه كما يرى طعامه وشرابه وأصابع يديْه.

هذا اللّقاء التّاريخي بين موسى -عليه السّلام- والخضر -رضي الله عنه- يعطينا مفتاحا إيمانيّا لفهم طلاقة علم الله المهيمن لتدرك الإنسانيّة أنّ ما عندها من علم لا يعدو أن يكون قطرة ماء في محيط لجيّ تمتدّ وراءه محيطات أمواه كثيرة: ((وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)) (الإسـراء: 85)، ولكيْ نفقه هذه الحقائق نقسّم هذه القصّة إلى ثلاثة محاور متكاملة ومتدرّجة في الزّمن.

أولها: بحث موسى -عليه السّلام- عن مجمع البحريْن، من بداية قوله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)) (الكهف: 60)، إلى نهاية قوله تعالى: ((فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)) (الكهف: 65)؛ فببلوغ مجمع البحرين ووجود العبد الصّالح يبدأ المحور الثّاني من القصّة.

ثانيها: الصّحبة العلميّة التي مرّت بثلاث محطّات كبرى، من قوله تعالى: ((قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) (الكهف: 66)، إلى قوله تعالى: ((فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)) (الكهف: 77)، بنهاية المحطّات التّعليميّة الثلاث يبدأ المحور الثالث والأخير.

ثالثها: تأويل ما أشْكل على موسى -عليه السّلام- بخرق السّفينة وقتل الغلام وبناء الجدار، من قوله تعالى: ((قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) (الكهف: 78)، إلى قوله تعالى: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) (الكهف: 82)، وتنتهي القصّة هنا لتبدأ قصّة ذي القرنيْن.

قبل بسْط حديث الوحي عن هذه الرّحلة العلميّة المباركة نتعرّف على شخصيّة الخضر -رضي الله عنه-، فهو عبد صالح مازالت الآراء بشأنه متعارضة على نحو يمسّ أحيانا بجوهر عقيدة التّوحيد لدى بعض غلاة الصّوفيّة، وفي أقوال من زعموا أنهم على منهاج الخضر -رضي الله عنه-، والحال أنه ليس له منهاج خاصّ به ولا شرْعة سوى أنه على دين الإسلام، فما قال أحد من العلماء الثّبتِ الثّقات إنّه صاحب ملّة أو أنه جاء بـ”دين جديد”. فقد كان مسلما تقيّا ورعا، آتاه الله رحمة منه وعلّمه من لدنه علما: ((فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)) (الكهف: 65).. ساق المولى -جل جلاله- شذرات من قصّته ليبيّن للنّاس طلاقة علمه وواسع رحمته بما حجبه عنّا من أمور يبديها في أوانها ولا يبتديها، ولو أبداها لنا لمتنا رعبًا ولقضينا فزعا، ولكنّ الله ستّار أخفى غيبه عن خلقه رحمة بهم، وكلّ شيء عنده بمقدار جرى به علمُه وكتبه قلمُه وجعل له أجلاً مسمّى لا يُطْلع عليه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول.

مقالات ذات صلة