الرأي

عندما تعلو الجنسية الفرنسية الوطن!

ح.م

إنَّ رفض مواطن جزائري التخلي عن الجنسية الفرنسية مقابل القبول بمنصب وزير في حكومة بلاده يشكل واقعة رمزية خطيرة، لها دلالاتٌ وأبعاد حساسة جدا، ينبغي عدم تجاهلها أو تبريرها بتساهل كبير، مثلما نقرأ على مواقع التواصل الاجتماعي من تعليقات تستخفُّ بالموقف الصادم، كأنّ المسألة في غاية البساطة عندهم، ولا تتعلق معنويّا بشأن الوطن ومنزلته في وجدان الأفراد، ولا ترتبط في تقديرهم بسموِّ خدمة البلاد والعباد التي لا تعلو عليها أيُّ جنسيّة، فكيف إن كان المفضّل على الجزائر التي مات لأجل حرِّيتها ملايينُ الشهداء، هو عدو الأمس الخبيث الذي كان أسوأ استيطان مادي وحضاري خلال القرن العشرين؟

يجب بداية أن نستبعد فرضية الاحتجاج المبطّن من المعني ضد قانون إقصاء مزدوجي الجنسية من المناصب السامية في الدولة، وأن رفضه التخلّي عن الجنسية الفرنسية المكتسبة هو ردّ عملي على مبدأ دستوري في غير محلّه، مثلما يزعُم المدافعون عن الموقف المُخزي، ذلك أن الرجل زكّى إقرار هذه المادة في تعديل 2016، وكلامه موثقٌ بالصوت والصورة، وهو ما يُسقط اليوم كل محاولة لتبرئة ذمته باسم الاعتراض على القانون.

في كل الأحوال، لا يهمُّنا أبدا الأشخاص، بقدر ما تعنينا الظاهرة والسلوك لارتباطهما بالعلاقة مع الوطن، وخدمة الشأن العامّ، وصورة البلد في الخارج أمام العالم، لأنّ الحادثة المستغرَبة، ويا للأسف، تشكل انطباعًا سيئًا وقاسيا عن وضعنا الداخلي لدى الآخرين، فهل بلغت الجزائر من السوء والرداءة مبلغًا يجعل أبناءها ينفرون من العيش فيها ولو في منزلة الوزراء، إذا كانت ستكلفهم الحرمان من الانتساب إلى الموطن الفرنسي والأجنبي عموما؟!

سيجيب بعض القراء بالقول: نعم! ثمّ ينبرون في تسويغ الموقف بسبّ الظلام والتهجُّم على بلادهم بنبرة تشاؤم حادَّة ونفسٍ يائسة تتمنى قبل الرحيلِ الرحيلَ، وسيكون نقدُهم بلا شك لاذعًا، فيه كثيرٌ من الحقائق الموضوعية التي لا ينكرها إلا جاحد، غير أنها لن تخلو كذلك من انقطاع الأمل في نفوس ضعُفت همَّتها عن البذل والنضال والعطاء لأجل المجتمع، وغلبت عليها مطامحُها الشخصية الضيقة.

صحيحٌ أن الجزائر مثل غيرها من بلاد العالم الجنوبي، أوضاعها ليست على ما يُرام، وأحيانا تكون الفرص فيها محدودة لأصحاب الطموحات العالية، مثلما تبدو الآفاق غامضة في تبدّل أحوالها، ولكن ذلك كلّه لا يبرّر على الإطلاق أن نستبدلها بأوطان الغير أو أن نُعرض عنها في وقت الحاجة، تفضيلا لما عند الأجانب.

فريقٌ آخر يعتبر أن تمسُّك الدستور الجزائري بمنع المناصب السيادية في الدولة عن مزدوجي الجنسية لا يتماشى مع مقتضيات العولمة، إذ يعيش العالم اليوم دون حدود جغرافية ويرتفع فيه الاعتماد المتبادل بين أعضائه إلى حد التماهي، فلا يُعقل حرمان مواطن من خدمة بلده بحجة امتلاكه جنسية ثانية.

إن مثل هذا الكلام يظل نسبيّا، لأنه مرتبط بظروف تاريخية مختلفة، وتتحكم فيه أيضا معطياتٌ داخلية متباينة لا يمكن تعميمها، ثم أنّ تقديم خدمة عامّة للوطن الأمّ لا يقتضي بالضرورة أن تكون عبر منصب سياسي سيادي، من حق الدولة أن تجعله محصّنا، بل يكفي أن يكون عبر هيئات استشارية متخصِّصة، وهذه قضية إجرائية مبدئية لا تطعن في وطنيّة أحد، بقدر ما تخصّ خصوصيات ومتطلبات إدارة الدولة في مستوياتها العليا.

في ثلاثينيات القرن الماضي، أفتى الإمام عبد الحميد بن باديس بحرمة التجنّس بالجنسية الفرنسية، لأنه يعدُّ تحت نير الاحتلال كفرا بالدين وخيانة الوطن، طبعا لا يمكننا أن نعتبر في 2020 أنّ اكتساب جنسية إضافيّة فعلاً مجرّما أو مُدانًا أخلاقيّا، لكن عندما نؤثرها -عند التخيير- على خدمة بلدنا الأصلي، فإن الموقف يعكس غلبة الأنا الفردي والتعامل مع الوطن من منظور الغنيمة فقط وما يدرّه علينا من ماديات.

 إن هذا السلوك النفعي يذكِّرنا في الطرف النقيض بجيل ثورة التحرير الذي لم يرض عن الجزائر بديلاً، ولنا في قصة شيخ المؤرِّخين الجزائريين، أبو القاسم سعد الله، رحمه الله، عبرةٌ وعظةٌ، فقد نال الرجل في عام 1965 شهادة الدكتوراه من جامعة مينيسوتا الأميركية، ثم درّس بجامعة أوكلير بولاية ويسكنسن، وبعد موسمين تخلّى عن عقد العمل ليعود إلى جامعة الجزائر رغم العراقيل المضنية، رافضا الجنسية الأمريكية، والتي قال عنها في مذكراته: “رأيتُ فيها خيانة وطنية، فأنا منذ نعومة أظفاري وبداية وعيي أكافح من أجل أن يكون لي وطنٌ هو الجزائر، فكيف أتخلى عنه بعد تحريره؟”.

مقالات ذات صلة