-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عندما تفقد اللغة مركز إمبراطوريتها

عندما تفقد اللغة مركز إمبراطوريتها

قبل أربع سنوات أجرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية استجوابا مع الخبير اللسانياتي والكاتب بيير فرات Frath عنونته “خضوع الفرنسية إلى الإنكليزية موجود” حلّل فيه هذه الظاهرة التي تتفشى و”تتقدم دون أن تعي بها المؤسسات الأوروبية ولا السياسيون ولا البحث العلمي ولا الجامعة”. ويقول الخبير إنه يستبعد أن تكون الإنكليزية في المستقبل المنظور لغة فرنسا، لكنها تواصل اليوم زحفها في مجالات كانت قبل الآن مجالات تحتلها اللغة الفرنسية، سيما فيما يتعلق بالميدان العلمي. ويضيف أنه سوف لن يكون بإمكان الفرنسيين الحديث عن معارفهم العلمية بلغتهم.

الإمبراطورية الفرنسية

يواصل بيير فرات بالقول إنه ليس هناك سوى كمشة من اللغات القادرة على التعبير عن العالم المعاصر هي “الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية والروسية والعربية واليابانية والصينية وبعض اللغات الأخرى”. أما آلاف اللغات المتبقية فليس لها، في نظره، ما يكفي من الكلمات في محتوياتها لأداء هذا التعبير. وربما ستستطيع ذلك مستقبلا إذا ما قامت بعملية توليد معجمي مكثف يطول مداه. وما نلاحظه في الوقت الراهن أن ما يحدث هو العكس حيث يميل أصحاب القرار في كثير من البلدان إلى تعويض لغاتهم باللغة الإنكليزية. ويضيف الخبير أن هذا “يصدق أيضا على بعض اللغات التي لا تدخل في هذه الفئة، مثل اللغة الفرنسية”.

والقاعدة التي تخضع إليها هذه العملية تقول “إذا كان الآخرون يسيطرون عليك، فذلك لأن ثقافتك ولغتك دون المستوى، أو لأن الغير يريدون جعلك تقتنع بذلك”. ويخلص هذا الخبير إلى القول إنه عندما تكون اللغة في مركز إمبراطوريتها فإن الناس يلتفّون حول محيطها وينهلون منها قدر المستطاع. أما إن فقدت مركز عرشها فستنتقل هذه اللغة إلى محيط إمبراطورية أخرى لتأخذ من لغتها المركزية. وذلك ما حدث للغة الفرنسية إذ “كانت في مركز إمبراطوريتها بدءا من القرن السادس عشر” والتفّت مستعمراتها من حولها حتى القرن العشرين ثم ضعف قومها واقتصادهم وفقدت اللغة مركزها وصارت “تسبح في فلك إمبراطورية لغة الولايات المتحدة”.

يشير الكاتب إلى أن العادة جرت على اعتبار أنه عندما يوجد “خضوع” فلا بد أن يكون هناك طرفان وأن اللغات التي تضمحل وتندثر هي ضحية المتسلطين الذين يضعون الخطط والسياسات التي تجعل لغاتهم تسيطر على المجتمع الضحية. وبهذا الصدد يلاحظ الخبير أن هذا صحيح، لكنه حتى ينجح مشروع المتسلط فلا بد أن يكون هناك تقبّل لدى الطرف الضحية.
وعندما سئل الكاتب عما إذا بقيت فائدة ترجى لدى الغير من تعلم اللغة الفرنسية، أجاب بأنه لا شك في ذلك ما دام للفرنسيين إنتاج ثقافي وعلمي معتبر. أما إذا تغيّر الحال وصار كل البحث العلمي والتعليم الجامعي باللغة الإنكليزية “فهذا سيكون نهاية الإشعاع الفرنسي”.

الإمبراطورية الأمريكية

نلاحظ أن الدول الأربع الأكثر استعمالا للغة الإنكليزية في العالم هي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واستراليا وكندا. وفي هذا السياق، يتساءل البعض عن مدى انتشار التدريس باللغة الإنكليزية في البلدان الأخرى. وحول هذا الموضوع، نشر المجلس الثقافي البريطاني ومنصة اختيار الدراسات (Studyportals) في 7 ديسمبر الجاري دراسة ركّزت على البرامج الدراسية في جامعات العالم التي تقدَّم في مستوى الليسانس والماستر. وخلصت الدراسة إلى أن هناك 27874 برنامجًا دراسيا من هذا القبيل يتمّ تدريسها كاملة باللغة الإنكليزية خارج الدول الأربع السالفة الذكر.

ولاحظت الدراسة أنه إلى وقت قريب، كانت المنافسة الرئيسية في التدريس باللغة الإنكليزية تأتي من مؤسسات التعليم العالي الأوروبية من دول مثل هولندا والسويد والدنمارك، وكذلك من بلدان صغيرة ناطقة باللغة الإنكليزية مثل أيرلندا ونيوزيلندا. لكن الاتجاه تغيّر منذ مطلع 2017 حيث برزت الجامعات الصينية والأفريقية في التدريس باللغة الإنكليزية وتضاعف عدد تلك البرامج المدرسة بلغة الولايات المتحدة. ولذا يمكن التأكيد بأن التعلم باللغة الإنكليزية سيظل في طليعة التعليم على المستوى الدولي، ومن المرجّح أن يؤدي نمو البرامج التي تُدرس باللغة الإنجليزية في آسيا -وفي شرقها على وجه الخصوص- إلى تغيير المشهد العالمي في السنوات القادمة.

وبخصوص الصين جاء في تقرير المجلس البريطاني أن هذا البلد لديه طموحات تعليمية دولية قوية، حيث يعمل على تطوير نظام التعليم العالي لتحسين تصنيفه العالمي في المجال العلمي وإنشاء شراكات عالمية. ولتحقيق ذلك كانت الصين تهدف خلال الفترة ما قبل وباء كورونا، إلى جلب 500 ألف طالب من بلدان العالم بحلول عام 2020. وقد جلبت 492 ألف طالب في عام 2019. لكن الوباء أثر في سير هذه العملية الإستراتيجية. ومع ذلك تمثّل البرامج باللغة الإنكليزية في الصين الآن 12% من هذا النوع من البرامج خارج الدول الأربع الكبرى الناطقة باللغة الإنجليزية.

أما الهند فأعلنت عن نيتها في استضافة 200 ألف طالب زائر بحلول عام 2023. وهذا يعني أن هناك تحولا في “سوق” حركة الطلبة داخل دول آسيا والمحيط الهادئ إذ صارت هذه الدول تفتح الباب لاستقبال الطلبة الدوليين أكثر من إرسال طلبتها إلى الخارج. ولذلك فإن البيانات تشير إلى أن نمو تدريس باللغة الإنكليزية في العالم سيكون، بالدرجة الأولى، في آسيا خلال السنوات القليلة المقبلة ومن المنتظر أن يتجاوز نموه في أوروبا. ويسلط التقرير المذكور الضوء أيضًا على مؤسسات التعليم العالي في منطقة الشرق الأوسط التي تبدي اهتمامًا قويًا بتقديم برامج دراسية باللغة الإنكليزية.

وقد ظهرت بعد الوباء رغبة لدى الطلبة المتنقلين تجعلهم يفضلون وجهات جغرافية أقرب إلى أوطانهم. وبما أن معظم الطلبة الدوليين ينحدرون حاليًا من آسيا، فمن المنتظر أن تستفيد الوجهات الآسيوية من هذه الظاهرة حتى في إطار “الإمبراطورية الأمريكية” !

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • ALI

    شكرا على هذا الموضوع