الرأي

عندما فقدت أوروبا جسمها السياسي..!

ح.م

منذ عصر النهضة.. والمفاهيم تتوالد في قارة أوربا، المفهوم السياسي يسعى لإلغاء السياسة!
رؤية سياسية مثل هذه تلغي قانون العلاقات السياسية، وتحنط السياسي في قفص رسمي.
لقد ولد في أوروبا مفهومان سياسيان، سعى كل منهما إلى إلغاء السياسة عبر إلغاء وجودين يكمل أحدهما الآخر.. فكان الهدفان:
الأول: إلغاء السياسة بذاتها.
والمعني هنا المجتمع المدني والمعاملات التجارية وكل ما يعقد الحياة المشتركة ويولد نزاعات مصلحية فردية أو جماعية وعدم مساواة “تغييب العدالة” وتعميم الظلم، ومن دعاة هذه “اليوتوبيا” جان جاك روسو وكارل ماركس.
وكـأنها لم تدرك أن موت السياسة يحمل في طياته اختفاء الأمة التي تسعى لاستعادة شرعية وجودها في أوروبا موحَّدة.
وجود الأمة يحتاج إلى جسم سياسي، يعبر من خلالها المواطن على وطنيته، والخضوع لقوانينه.
في زمن الاتصالات الشبكية لا تنفرد علاقة المواطن بالجسم السياسي المفروض عليه.. وتتعرَّض هذه العلاقة إلى المزاحمة من قبل كمٍّ هائل من الاتصالات التي يجد ذاته سابحا في فضائها خارج هذا الجسم السياسي “المحلي”.. حتى تبدو السياسة وكأنها لم تعد ذلك المبدأ التقليدي الذي ينظم الحياة في المجتمع.. إنها هذا النشاط الثانوي الذي فقد أولويته.. هي ذلك “البنيان المصطنع الذي لا يتلاءم مع حل المشاكل الجوهرية للمجتمع المعاصر”.
الهدف الثاني: السعي نحو إلغاء الدولة.
فهي المجال الرحب، الشاسع لممارسة التعسف والاستبداد.. كما جاء في آراء المفكرين الفوضويين الذين أنجبتهم أوروبا.
إلغاء الدولة.. هو العودة إلى الجوهري أو هو المقاربة السياسية التي تجسد الانتهاء من أداء مهمتها التاريخية بعد أن فقدت القدرة على تحقيق الآمال وعجزت عن إيجاد الإجابة عن أسئلة هذا الزمن المعقد..
لكن أليس هو التناقض بعينه.. حين تثار مسألة نهاية الدولة.. والقوميات المتناثرة تندفع نحو انتزاع مكانتها كدولة في منظمة الأمم المتحدة الآخذة في الاتساع ؟!
قد ينتفي شرط التناقض في عصر تعدُّد الأمم التي تترافق مع زمن نهاية وموت جسمها السياسي.. حين ندرك أن نزوع الأمم إلى الاستقلال هو النزوع الأول لشعوب الكرة الأرضية نحو الحرية والانعتاق..
إلغاء الدولة وإلغاء السياسة.. هما المفهومان المتوازيان في عصر انقلاب فوضوي، صاغهما الفكر الأوروبي، وصدّراه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعمل الآن على تحويل أوروبا إلى وكالة اجتماعية يتكفل بها “حارسٌ ليلي” و”ضابط أمن” يراقبا أداء دورها في ميدان الأخلاق وميدان العلاقات والخدمات وحماية مخازن الاقتصاد.
لقد فشلت أوروبا الغربية في تطبيق أحد هذين المفهومين، وكان فشلها ناجما عن عدم رغبتها في تحقيق هذين الحلمين الفوضويين، لكن أمريكا التي تجيد توظيف الفكر الأوروبي، تمكنت من انتزاع الجسم السياسي الأوروبي، وفصلته شيئا فشيئا عن كيان دولته التي تستمد الآن شرط بقائها من إدارة البيت الأبيض.

مقالات ذات صلة