عندما يسقط ورثة الأنبياء!
لا شك أن الوضع المتردي والشرخ الذي أحدثته الخلافات والنزاعات في كيان الأمة الإسلامية اليوم قد تسببت فيه عوامل عديدة، بعضها خارجي يعود إلى ضغوط العولمة وإلى أعداء الإسلام التقليديين، ومعظمها داخلي يعود إلى المسلمين أنفسهم، إلى المذهبية الضيقة والطائفية والقبلية والعرقية والخلاف الديني السني الشيعي وإلى طغيان المصلحة الضيقة وما تجر إليه من “تكتلات وتحالفات”.
ومن البديهي الذي لا يخفى على أحد أن المسلمين لو حققوا وحدة دينية جامعة تسمو فوق هذه الاعتبارات ما شهدوا هذا الوضع المزري بورثة خير أمة أخرجت للناس، وما عانوا من هذا التشتت والضعف والهوان.
لكن السؤال هو: من يحقق هذه الوحدة الدينية الجامعة؟
إن هناك ركنين أساسيين يقوم عليهما كيان الأمة الإسلامية هما: التوحيد والوحدة، والمسؤولون عن هذين الركنين إنما هم العلماء ورثة الأنبياء وليس الحكام.
من المعلوم أن طاعة أولي الأمر واجبة شرعا بنص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، لكن هذه الطاعة الواجبة مرهونة بإقامتهم لشرع الله سبحانه، والمرجعية في شرع الله هم العلماء ولذلك كان مبدأ كل حاكم عادل في الإسلام هو قولة عمر بن الخطاب الشهيرة “أطيعوني ما أطعت الله فيكم”، ولكن أي علماء هؤلاء الذين يرثون الأنبياء، إن لسان حال الأنبياء جميعا هو قول خاتمهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه” وهو يعني تبليغ رسالة ربه، فما هي رسالة ورثة هؤلاء الأنبياء؟
إنها صيانة هذين الركنين: التوحيد والوحدة.
التوحيد الذي يضمن سلامة العقيدة والتعايش بين جميع المذاهب الإسلامية في ظل وحدة دينية مقدسة جامعة، والوحدة التي تحقق القوة والمناعة والقدرة على التمكين لدين الله ولشريعته السمحة لتسعد بها البشرية جمعاء.
كلنا يعلم أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم الذي تلقنه مدرسة التقوى “واتقوا الله ويعلمكم الله” العلم الذي يزيد صاحبه معرفة بالله وخشية منه “إنما يخشى الله من عباده العلماء” فيصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، العلم الذي يزدان بأخلاق الأنبياء فيحرر صاحبه من كل قيد دنيوي فلا يثنيه ترغيب أو ترهيب عن المجاهرة بالحق إرضاء لله وحده ولو أسخط الناس جميعا، فأين أمثال هؤلاء العلماء اليوم؟
إن العلماء المسلمين اليوم كثيرون، فنحن نراهم ونستمع إليهم ونقرأ لهم ونبتهج عندما يتنافسون في تحليل أسباب ضعف المسلمين وتخلفهم ويبينون عوامل نهضتهم ووحدتهم ويحرصون على ترشيد الصحوة والتقريب بين المذاهب ويدعون إلى الاقتداء بأخلاق المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
لكننا –بموازاة ذلك كله- نصاب بخيبة مريرة عندما نرى بعض هؤلاء العلماء أنفسهم يكفر بعضهم بعضا ويفسّق بعضهم بعضا بسبب خلافات في مسائل فقهية فرعية، وأحيانا بسبب خلافات أملتها مصالح دنيوية ومواقف سياسية لا علاقة لها بالدين أصلا ثم، كيف لا تهتز ثقتنا في هؤلاء العلماء عندما نراهم ساكتين عما يرتكبه بعض الحكام المسلمين من أخطاء في حق الدين وشريعته، إن سكوت العالم عن منكر في الدين هو تزكية له ومباركة في أعين العامة لأنهم قدوة.. إن الوضع المتردي الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم لا يعود إلى نقص في العلم، ولكن إلى نقص في الأخلاق، والناس على دين علمائهم لا على دين ملوكهم، فقد يسقط الحكام في أعين رعاياهم، وما أكثر ذلك، ولكنهم إذ يسقطون يسقطون وحدهم، لكن العالم إذا سقط سقطت معه الأمة بأسرها لأنه في نظرها يمثل ضميرها الديني وقدوتها العملية في تجسيد مبادئه ومثله وأخلاقه وآدابه، كان الإمام أبو حنيفة يمشي في الطريق، فرأى قريبا منه حفرة اقترب منها غلام كان يمشي أمامه، فصاح به: احذر أن تسقط يا غلام، فالتفت إليه وقال له: احذر أن تسقط أنت، فأنا إن سقطت سقطت وحدي أما أنت فإنك إن سقطت سقطت معك الأمة.
وأثر عن الإمام ابن حنبل في محنته الشهيرة مع الخليفة المأمون في قضية “خلق القرآن” أنه سُجن مع شاب كان له الموقف نفسه من هذه القضية، فكان يقول لابن حنبل: اثبت على قولك يا إمام، فأنا إذا ما ضعفت ورجعت عن رأيي إرضاء لهم وإيثارا للسلامة فلا أمثل إلا نفسي، أما أنت فإنك إن رجعت عن رأيك فستتبعك الأمة بأسرها ومما يروى عن العز بن عبد السلام أنه أغضب السلطان بانتقاده الشديد له، فعز له ومنعه من التدريس والقضاء، ولكن عندما رأى التفاف الناس حوله وسخطهم على هذا القرار أرسل إليه من يقول له إن السلطان يدعوك إلى أن تعود للتدريس وللقضاء بشرط أن تعتذر له وتقبل يده، فقال: والله لا أرضى أن يقبل يدي يا قوم أنتم في واد وأنا في واد! وكذلك كان الحسن البصري من الحجاج وعمرو بن عبيد من المنصور وغيرهم كثير ممن يحفل التاريخ الإسلامي بمواقفهم الرائعة الرائدة في نصرة الحق والمجاهرة به إرضاء لله وحده سبحانه، ولو كان في ذلك هلاكهم!
إن أمثال هؤلاء العلماء لا يخلو منهم عصر أو جيل، ولكنهم قد يقلون ويهمشون فلا يسمع لهم صوت مهما يكن صريحا مدويا، حتى لا يتأثر بهم الناس فيستجيبوا لندائهم ويقتدوا بمواقفهم، ومن منا لا يذكر قولة ابن باديس: “والله لو قال لي الاستعمار قل لا إله إلا الله ما قلتها!“
إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم المستأمنون على “التوحيد والوحدة” وهم القدوة العملية للأمة، لا في العلم ولكن في الأخلاق، والناس على نهج علمائهم.
قال الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله يخاطب الطلبة الجزائريين في تونس سنة 1947 “لا تأسوا على قلة حظكم في العلم أوفر حظكم في الأخلاق، فإن أمتكم لم تسقط هذه السقطة من نقص في العلم، ولكن من نقص في الأخلاق!..” وهذا ما لخصه أمير الشعراء أحمد شوقي في بيته الشهير:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا!..