-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أقواس

عودة قوية لشعراء البلاط في العالم العربي

أمين الزاوي
  • 5763
  • 0
عودة قوية لشعراء البلاط في العالم العربي

قال ابن خلدون: (اعلم أن السيف والقلم، كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره) هكذا أشعر وأنا وأراقب المشهد الشعر العربي منذ عشرية أو يزيد قليلا. وهكذا أشعر وأنا أراقب تشكل طبقات الشعراء العرب منذ عشرية أو يزيد وعلى الأدق منذ سقوط حائط برلين وانهيار المعسكر الشرقي.

 

  • أشعر بمثل هذه الخلاصات التي أسوقها في هذا المقال والتي تخص وضع الشعر وأحوال  الشعراء في العالم العربي وعلاقتهم بالمؤسسات وبالسلط السياسية وبالشعر كسلطة وكلغة.
  • أول ما يثير الانتباه النقدي هو هذه العودة الواضحة والفاضحة والمفضوحة لشعر التكسب في الثقافة العربية المعاصرة. وهذه العودة تتأسس داخل عملية شاملة متميزة بخوف الأنظمة من التغيير والخوف من ريح الحرية التي تهب من كل جهة، تقوم عودة شعر التكسب في ظل عملية تدجين كبيرة يؤسس لها “بذكاء” في مطابخ السياسة والمال من أجل تدجين المثقف النقدي وتذويبه داخل آلة العادي الثقافي والعادي الاستهلاكي اليومي. كل ذلك يتم بنية فصل الصوت الشعري عن الشارع الثقافي العربي الجاد.
  •  
  •  أشعر وأنا أراقب هذا السقوط الثقافي والإبداعي الحر أن هناك تهافت “أشباه الشعراء” على حضور إعلامي مدسوس ومشوب بالخيانة للكلمة الصادقة والموقف الثابت يتم فيه تغليب إعلامي أعظم وتلميع أكبر لكل من يتمسح أكثر على عتبات “الطاعة”، طاعة السلاطين من زمر الشعراء المخصيين أو ما أسميهم بـ “حراس السرير”.
  •  
  • باسم نهاية الأيديولوجيا، وتحت هذا الشعار.
  •  
  • باسم نهاية اليسار العربي وتحت هذه اليافطة.
  •  
  • باسم الحرية والتعددية وبهذا الخطاب التبريري الذي يدعي التقدم والحرية.
  • باسم نهاية الثورات، أو بمثل هذا الخطاب اليائس.
  • باسم الليبرالية وحق الدفاع عن “اللاشيء” أو عن العدمية… باسم هذا الوضع كله يتعاظم  شأن شعراء التكسب الواقفين على عتبات بلاط السلطان، جميع السلاطين على اختلاف سلالاتهم وأشكالهم وألوانهم وتسمياتهم وعلى اختلاف ملابسهم تقليدية كانت أو بدوية أو صحراوية أو أوروبية أو أمريكية.
  • لا شعر دون سلوك شعري راق، في المخيال العربي يوضع الشاعر دائما في كفة الأنبياء. أما اتهم الأنبياء في كل الديانات بالشعر وانتحال صفة الشعراء؟
  • نحن للأسف أمة شعر البلاط والتكسب بامتياز، لنا في ذلك تاريخ طويل، وهذه هي الميزة الوحيدة التي لم يتنازل عنها كثير من الشعراء المعاصرين، أما كان أكبر شاعر العربية وهو أبو الطيب المتنبي (915 –  965)  معروفا بهذا السلوك المشين، سلوك الذليل أمام السلطان، وهو ما جعل الدكتور طه حسين يضجر من تصرفاته فيصفه “بالنصاب” وقد هاجمه هجوما صارخا في كتابه “مع المتنبي” الصادر العام 1937.
  • يقول طه حسين في حوار أجرته معه مجلة “الرسالة الجديدة” المصرية ونشر عام 1971 عن تكسب المتنبي وممالاته وولائاته ومذلته: “المتنبي نصاب كبير، مدح كل الناس انتظارا لرفدهم، مدح سيف الدولة ومدح كافورا، واعتنق القرمطية ثم هجاها، كل هذا يؤكد لك أن المتنبي نصاب كبير”.
  • أراقب المشهد الشعري العربي وأراقب فلول “أشباه الشعراء” من خليجهم إلى مغاربهم، من بلاد أولى القبلتين وما جاورها إلى بلاد العدوتين وما بينهما، فأجد أن الشعر العربي تنازل عن أسنانه وقد كانت بالأمس القريب له أنياب قاطعة وكانت له أيضا مدافع منصوبة في اللغة وفي الموقف. وأرى أن الشاعر العربي المعاصر قد تنازل عن فحولته العظيمة، والفحولة هنا هي فلسفة وموقف في الحياة وفي اللغة وفي الأخلاق وفي الدفاع عن الحرية والجمال بكل معانيه.
  •  أقول وأنا أراقب بحزن هذا الانكسار. أما يحن  هؤلاء من أشباه الشعراء إلى  إعادة قراءة:
  • لا تصالح” لأمل دنقل (1940-1983) ومنها أسوق هذا المقطع:
  • لا تصالحْ!
  • ولو منحوك الذهبْ
  • أترى حين أفقأ عينيكَ 
  • ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
  • هل ترى..؟
  • هي أشياء لا تشترى..:.
  • وألا يقرئون قصيدة “أبوتمام وعروبة اليوم” لعبد الله البردوني (1929-1999) ومنها:
  • مـا أصدق السيف! إن لم ينضه الكذب
  •  وأكـذب السيف إن لم يصدق الغضب
  • بـيض الـصفائح أهـدى حين تحملها
  •  أيـد إذا غـلبت يـعلو بـها الـغلب
  • وأقـبح الـنصر… نصر الأقوياء بلا فهم
  • سوى فهم كم باعوا… وكم كسبوا
  • ورحـت مـن سـفر مضن إلى سفر
  •  أضـنى لأن طـريق الـراحة التعب
  • لـكن أنـا راحـل فـي غـير ما سفر
  •  رحلي دمي… وطريقي الجمر والحطب
  • إذا امـتـطيت ركـاباً لـلنوى فـأنا
  • فـي داخـلي… أمتطي ناري واغترب
  • قـبري ومـأساة مـيلادي عـلى كتفي
  •  وحـولي الـعدم الـمنفوخ والـصخب 
  • ألا تشدهم نخوة لقراء “القدس عروس عروبتكم” لمظفر النواب وهم يجتمعون وكي يقرؤوا شعرا في حضرة السلطان أي سلطان ومنها:
  • في هذي الساعة في وطني،
  • تجتمع الأشعار كعشب النهر
  • وترضع في غفوات البر
  • صغار النوقً
  • يا وطني المعروض كنجمة صبح في السوق
  • في العلب الليلية يبكون عليك
  • ويستكمل بعض الثوار رجولتهم ويهزون على الطبلة والبوقْ
  • أولئك أعداؤك يا وطني!
  • من باع فلسطين سوى أعدائك أولئك يا وطني؟
  • من باع فلسطين وأثرى، بالله،
  • سوى قائمة الشحاذين على عتبات الحكام
  • ومائدة الدول الكبرى؟
  • فاذا أجن الليل،
  • تطق الأكواب، بأن القدس عروس عروبتنا 
  • أهلاً أهلاً ..
  • من باع فلسطين سوى الثوار الكتبهْ؟
  • وألا يشعرون بمحبة قراءة “هوامش على دفتر النكسة” لنزار قباني (1923-1997) نكسة لا تزال مستمرة في أشكال ملونة وعلى شاشات كبيرة وعلى المباشر:
  • مالحةٌ في فمِنا القصائد
  • مالحةٌ ضفائرُ النساء
  • والليلُ، والأستارُ، والمقاعد
  • مالحةٌ أمامنا الأشياء
  • إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
  • لأننا ندخُلها..
  • بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
  • بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ 
  • لأننا ندخلها..
  • بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ
  • السرُّ في مأساتنا
  • صراخنا أضخمُ من أصواتنا
  • وسيفُنا أطولُ من قاماتنا 
  • خلاصةُ القضيّهْ
  • توجزُ في عبارهْ
  • لقد لبسنا قشرةَ الحضارهْ
  • والروحُ جاهليّهْ…
  • وقصائد “الأخضر بن يوسف ومشاغله أو الشيوعي الأخير” لسعدي يوسف. 
  • وقصائد أحمد فؤاد نجم… وغيرهم 
  •  ألا يقرأ شعراء اليوم مثل هذا الذي ذكرت وغيره والذي يعود بعضه إلى ثلاثة عقود أو يزيد حتى يستحموا في طهارة الكلام وأنفة وسؤدد الآباء والأجداد من الشعراء الشعراء.
  • ربما بإعادة قراءة هذه النصوص وغيرها تستيقظ الحاسة النائمة والمنومة وينتفض الحبر المخدر بالدولار والبترول.
  • لا شعر بدون مقاومة. لا شعر بدون تحريض ثقافي جمالي عال يسحب الأذن العربية التي خربت وشوهت ويصادق القارئ أو المستمع صداقة الجمال واليقظة والممانعة.
  • ما أحوج شعرنا إلى الذاكرة، وما أحوج شاعرنا اليوم إلى لقفة وعي ونهضة ضمير. 
  • باستثناءات قليلة تؤكد القاعدة، لم يذهب الشعر العربي الجديد إلى الأمام، إني أراه يزحف نحو الخلف والخوف وأعتاب البلاطات.
  • ونسمع الأسطوانة التبريرية من هؤلاء “أشباه الشعراء”: “لا بد من قتل الأب” حتى تتحقق “الحداثة” ويراد بذلك  قتل “الأب المقاوم” وينصب الشاعر “السلطان” أبا له وولي نعمته. 
  • هذه ليست نوسطالجيا إنما الشعر مقاومة دائمة  للرداءة وللسقوط وللخذلان والتآمر على القيم الانسانية الكبرى.
  • أراقب المشهد الشعري ومعه أراقب طبقات الشعراء المتلاحقة والمتلاهفة فأجدهم كما في مأدبة مستمرة يجلسون ويتدافعون حول مائدة كبيرة لسلطان يضحك منهم ومن صغرهم. موائد تغير إطارها وشكلها موائد “حداثية”: “حساء” الفنادق الكبيرة ومشروبها ورحلات في الدرجة الأولى ومال ريع وريح وبهتان.  
  • أيها الشعراء النائمون في العسل السلطاني حتى وإن سلمنا معكم بأن المدح كان فنا من فنون الكلام عند القدامى فإني أقول: اليوم لا مبرر لوجوده، فوجوده مذموم ومرفوض جملة وتفصيلا.
  •  الشعر حاسة الإنسان في رؤية الجمال والسعادة والخير والتقدم والعدل ونشدان التغيير وهي صفات لا  تتوفر في مجتمع عربي متهالك ومنهوك ومباع فمن أين يجيء المدح وما لون وما شكل الممدوح هذا في ظل هذا الخراب.
  • أراقب المشهد الشعري العربي كقارئ وأكتشف ردة كبيرة في القيم وردة في السلوك وتراجعا في استقلالية الشاعر كقاعدة للكتابة ورأسمال للحرية.
  • أمام هذه الردة في ثقافة الممانعة وطغيان ثقافة الطاعة هجر الناس الشعر. 
  • هناك فخاخ تنصب للشعر وأخرى تنصب للشعراء.
  • فخاخ المال وفخاخ السلطة وفخاخ الشهرة وفخاخ الاستهلاك وفخاخ الصورة الإعلامية. 
  • هناك سياسة ترذيل ((banalisation الشعر وعمليات متقنة لإخصاء الشعراء.  
  • لم يعد القمع في لغة السلطات المعاصرة هو التكميم أو المنع أو السجن. إن فن التكميم اليوم هو “المال”. والمنع هو المال والسجن هو المال. فالسلطان يسعى كي يجعل لسان الشاعر العربي يتحلب “شعرا” رغبة في المال، وهو اللسان الذي يشترط فيه أن يكون سليطا ساخنا على عادة الشعراء الفحول (والفحل هنا مصطلح حداثي لا فروسي، هكذا يجب أن يفهم. الفحولة لصيقة بالإنسان السوي وبالشاعر الذي يقود القيم ويمثل رمزا للكرامة).
  •  والفخ الآخر هو الإعلام، هناك قنوات تلفزيونية ملكية السلطان، جميع أشكال السلاطين، تحتفل بأنصاف الشعراء فتجعل منهم “أمراء الشعر” و”أمراء القوافي”، ولكن هؤلاء “الأمراء” هم في نهاية المطاف “ملكية” خاصة للسلطان، قطيع من قطعانه.
  • وتكرس “المهرجانات” التي أصبحت تتحكم فيها عصابات محترفة صورة السلطان راعيا للشعر وتكرس صورة ولائهم لذي النعمة قبل أن تكرس الشعر الذي هو الغائب الأكبر في غالبية مهرجانات الشعر العربي.
  • والجوائز التي تقدم في الشعر وفي فنون أخرى كالرواية التي يراد محاصرتها وتكميم الروائيين العرب من خلال إغراقهم في المال وتحويل جيوبهم إلى آبار صغيرة، هذه الجوائز هي الأخرى فخ من فخاخ السلطان العربي. 
  • ولعل موقف الشاعر الصديق سعدي يوسف من الجائزة التي منحت له ثم لاختلاف الشاعر مع مانحيها ثارت الدنيا ضده، هذه الحال تؤكد ما أذهب إليه وهو أن هذه ليست جوائز أدبية إنما هي كمامات وأصفاد من ذهب وشهادات حسن السيرة أمام ذوي النعمة.
  • أراقب مشهد “الشعر” المأزوم ومثله مشهد قوافل “أشباه الشعراء” الراكضين إلى الموائد و”الزردات” وأقول: هذا زمن الردة الثقافية. هذا زمن عودة أخلاق التكسب وثقافة “الطاعة”.
  • هذا الزمن العربي هو زمن الشعراء “حراس السرير”.
  • هل تعرفون ما معنى “حراس السرير”؟؟؟
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!