-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“غابو” بملامح جزائرية

“غابو” بملامح جزائرية

قرأت لا أدري أين أن الكاتب الكولومبي، الحائز جائزة نوبل للآداب، غابريال غارسيا مارثيز Gabriel Garcia Marcuse لم يزر الجزائر ولا يعرف عنها شيئا. وهذا خطأ وجب تصويبه. والحقيقة أنه زار بلادنا في أواخر الثمانينيات بتوصية من الأخضر الإبراهيمي لحضور احتفالية وطنية قد تكون عيد الاستقلال أو اندلاع الثورة، أو ممثلا لصديقه فيديل كاسترو. وله مع الثورة حكاية. فخلال حوادث 17 أكتوبر 1961 في باريس اعتقل غارسيا مارثيز ضمن الجزائريين الذين اعتقلتهم شرطة بابون، ورمت بعضهم في نهر السين، وقتلت منهم العشرات. فقد جنت عليه ملامحه الشبيهة بملامح الجزائريين، واقتيد بسبب سمرة بشرته وشعره المجعّد عدّة مرات إلى مخافر الشرطة. ورغم لغته الاسبانية ومحاولاته إقناع الشرطة أنه كولومبي، إلا أنهم أصروا أنه يسخر منهم وأنه وهراني يعرف القليل من الاسبانية.

لم يخطر على بال غابو أن الجزائر ستلهمه بعد عشرين سنة من اعتقاله في باريس. حدث ذلك في مطار هواري بومدين لمّا كان يهمّ، هو وزوجته، بالمغادرة فشاهد خليجيا بلباسه التقليدي وعلى معصمه عقاب صيد. فانتفضت بداخله صوّر بعيدة، وذكّره هذا الخليجي بصديق طفولته الذي اغتيل في قضية شرف في الخمسينيات. هكذا ولد سنتياغو ناصر المتخيّل في صورة خليجي بمطار الجزائر، وانتقل بملامحه حيّا الى صفحات رواية “وقائع موت معلن”. هذه الرواية نشرها مارثيز عاما قبل نيله جائزة نوبل سنة 1982، وترجمت إلى عشرات اللغات في العالم، وحوّلها المخرج الايطالي المعروف فراتيشكو روسي إلى فيلم لم يرق إلى مستوى الرواية، التي جمعت بحدق بين تقنية الروبورتاج والسرد الواقعي وبنية القصة البوليسية. وملخص حبكتها وقائع اغتيال سنتياغو ناصر لحظة بلحظة، لكن الحبكة تجري بطريقة عكسية من النهاية إلى البداية. فالكاتب يشرح للقارئ من قتل ناصر، ثم يوضّح في بقية الرواية كيفية وأسباب الجريمة.

وقد اندهش الحضور من قولي في محاضرة عن مارثير “احذفوا أسماء الأماكن والأعلام وعوّضوها بما يقابلها عندنا، وستجدون أنفسكم تقرؤون روايات وقصص بنماذج جزائرية، وتسرحون بخيالكم في أيّة قرية جزائرية”. وهذه هي عظمة الأدب الحقيقي، القدرة على الانتقال من المحلي المغلق الى العالمي المفتوح. وهذا ما قام به مارثيز حين جعل من قرية “ماكوندو” الخيالية الضائعة في الزمان والمكان تشبه أيّة قرية في العالم ووظف في أعماله “مائة سنة من العزلة” و”وقائع موت معلن” و”خريف الباتريارك” و”الحب في زمن الكوليرا” و”الواقعية السحرية” وهي نوع أدبي يتضمن عناصر من السحر والخوارق والحلم تدرج في أوضاع مرتبطة بإطار تاريخي وجغرافي محدد وواقعي. أغلب ما كتبه مارثيز هو تأملات حول العزلة والموت. وقد ربط مارثيز موضوع العزلة بوضعية أمريكا اللاتينية حين صرح خلال استلامه جائزة نوبل للآداب، إن تأويل واقعنا بحسب مقولات في التفكير غريبة عنا يجعلنا أكثر فأكثر مهملين وأقل حرية وأكثر عزلة”.

هكذا “جنت” الثورة الجزائرية على غابو، وكاد أن يدخل السجن بسببها، ولكنها ألهمته أفضل رواياته في رأيي. واليوم يرقد غابو، الذي يصحّ أن نقول عنه إنه مع اختلاف الزمان والمكان ملأ، مثل المتنبي، الدنى وشغل الورى، في عزلة مطبقة على فراش الموت في أحد المستشفيات بعد إصابته بسرطان لمفاوي، أفقده الذاكرة وأدخله في هوّة الخرف السحيقة. وأفضل ما يمكن أن نعزي أنفسنا فيه هو ما كتبه بنفسه في رسالة وداع أصدقائه:”الموت لا يأتي مع الشيخوخة، لكن فقط مع النسيان”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • اكلي

    1-عيب علينا كجزائريين محبين للادب ان نخطئ في كتابة اسم اديب عظيم مثل Gabriel Garcia Marquez لا Marcuse.
    2-لا اتقن اللغة القشتالية و رغم ذلك انا متاكد ان Marquez لا ينطق مارثيز. قد يكون نطقه ماركيذ, ماركيث او ماركيز, لكن بالتاكيد ليس مارثيز!!!

  • yasmina

    لا يعرف العمق من لم يقرأ ماركيز هذا الثراء ..هذا الصوت الانساني القادم من خارج أسوار السيطرةالثقافية الغربية ..الصدق التبري يقول عزلة الانسان الرازح تحت ثقل الفقر والجوع..
    شكرا لهذه النافذة التي تكشف لنا وجها من وجوه ماركيز المتعددة

  • مواطن بسيط

    تبقى دائما متميز ا ...قراءة رواية مائة عام من العزلة ....ماشدني هو سرعة و تراكم الاحداث الى درجة انك لا تسطيع مسايرة الكاتب له اسلوب تحرري جامح .. شكرا