-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

غياب الإبداعية في الفكر العربي المعاصر

خير الدين هني
  • 248
  • 0
غياب الإبداعية في الفكر العربي المعاصر

الإبداعية مصدر صناعي يصنع من اسم آخر، بزيادة ياء مشددة تسمى ياء النسبة، يليها تاء التأنيث المربوطة، كيما يدل المصدر الصناعي على صفات ما يتصف به الاسم المصنوع منه، فلفظة الإبداعية نحتت من المصدر أبدع، لتدل على معناه، كقولنا اشتراكية صناعية بحرية تطوّرية فكرية..

وهكذا، والمولَّدون هم من نحتوا من الكلمات الجامدة مصادر أطلق عليها النحاة لفظة المصدر الصناعي، ليجعلوا فيه القابلية لحصول الأمر المرغوب فيه، وله معان أخرى ليس هذا محل ذكرها، وتعريفي للمصدر الصناعي وعوامل صناعته من لدن المولَّدين، هو عين ما أبتغيه من هذا المقال، لأن الكلمة تعني الاختراع في اللغة أوفي أي شيء آخر على غير سابق مثال، وقد تولّدت الحاجة إلى الاختراع اللغوي حينما أخذ العرب يترجمون العلوم العقلية إلى العربية، فلما لم تسعفهم الاشتقاقات اللغوية المألوفة، ابتكروا صيغا اشتقاقية جديدة متلائمة مع خصائص الاشتقاق العربي، كيما يحافظون على سلامة النظام اللغوي العربي.

وهكذا خضعت العربية الوصفية، إلى تطوير كبير من طريق الاشتقاق والنحت وتعريب الألفاظ، بتكييف نظم الكلمات الأجنبية إلى قواعد الضبط العربي، وهذا ما يسمى الإبداعية اللغوية، لأن العقل العربي عند استفاقته من حياة الغفلة والركود -بعد عصور الاحتجاج- شق طريقه نحو بناء نهضة شاملة، وحينها واجهته مشكلات اصطلاحية، للتعبير عن توليد الكم الهائل من العلوم العقلية واللغوية والفقهية والفنية، التي فرضتها حركة التطور والتجديد، فلم يتركوا عقولهم جامدة راكدة من غير بحث ودراسة وفضول علمي، لذلك ابتكروا نظما جديدة وغير مسبوقة في تطوير الحرف العربي، بإعجام حروفه المتشاكلة ورسمها، وتشكيلها وكتابتها وإعراب الكلمات والجمل وتصريفها، كما غيروا الأساليب المعهودة في التركيب النسقي للجمل والسياقات، وظلت بنياتها التركيبية تتطور في أشكال جديدة إلى يوم الناس هذا، فالعربية التي نستعملها اليوم، ليست هي العربية المستعملة قبل العصور الاحتجاجية، وهذه الديناميكية في التطور هي ما تستلزمها الطبيعة الأزلية لتطور الفكر الإنساني.

ولفظة الإبداعية في مفهومها العام، هي تعبير على من يخترع شيئا جديدا لم يسبق أن عرفه الناس من قبل، وقد ورد هذا المعنى في قوله، تعالى: “بديع السماوات والأرض”، أي: خالقها وموجدها على غير سابق مثال. والإبداع مصدر يدل على حَدَث مبتكر ينظم الأفكار وينسقها في بناء هيكلي جديد، والذي يفجر حركة الإبداع في الذهن هو الطاقة العقلية الفطرية الفعالة، المخزنة في الدماغ التي تحرك قدرات التفكير والإبداعية، وباعث هذه الطاقة هو المحرك الاجتماعي الضاغط على الإنسان الموهوب ليلبي احتياجات المجتمع، من البضائع والسلع والخدمات والمخترعات والمكتشفات والمستلزمات، باختراع أساليب ونظم جديدة تستجيب لميول الإنسان وتلبي ذوقه ورغباته وإحساساته. والإبداعية في مجملها خاصية إنسانية متفردة، تسعى -دوما- إلى ابتكار أفكار ونظم وقوانين و طرق ووسائل غاية في الجدة والتفرد، بحيث تشكل إضافة جديدة في الإنتاج الإنساني، يعود نفعها على البشر جميعا.

والإبداعية الأصيلة هي التي تبدع أساليب مبتكرة، في اختراع أو تطوير العلوم والفنون والتحديث ومناهج البحث والتجريب والتقنية، والآداب والنقد والكشف والعمران، وأنماط التعليم والتثقيف والتقويم والتوجيه. وهي التي تجعل العقل الموهوب -حينما تتاح له حرية التفكير والنقد والاختيار- يبتكر نظما متفردة في أخلقة الحياة وشرعنتها بالوجاهة المعيارية، والإبداعية هي التي تجعل النظم المبتكرة لا تمكن إلا المتأهلين الموهوبين من الارتقاء إلى المناصب السياسية والعلمية والثقافية الرفيعة، وتجعلهم نخبة متميزين في تفكيرهم وتسييرهم وأشرافهم على المؤسسات الاجتماعية.

هذه هي النقطة الفارقة بين الأمم والشعوب، وهي ما يميزهم عن بعضهم بعض في الحيوية والحركة والنشاط، فجعلت شعوبا حيوية ارتقت بأنفسها إلى العتبات العليا من الوجاهة الاعتبارية، فتملّكت القدرة على التكيّف مع أي ظرف أو وضع تتيحه الدينامية، وبين شعوب أخرى خاملة حنطتها العوامل التاريخية، وبقيت جامدة راكدة معاكسة لحرة التطور التاريخي، وأصبحت هذه الحالة الفارقة تصنف الشعوب تصنيفا متعاكسا، فأصبحت الأولى تصنف في أعلى الهرم التراتبي، بجدها ونشاطها وحيويتها، فقامت بانقلاب جذري في طرق تفكيرها، ونظم حياتها وأنماط عيشها، فابتكرت واخترعت واكتشفت وطورت نظمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حتى بلغت مستويات عليا من التطوّر والارتقاء، وأصبح لها صوت مدوي في المحافل الدولية، يسمع إليها حين تتكلم، ويخشى من سطوتها حين تغضب وتسخط.

بينما بقيت الشعوب الخاملة فوضوية، ومصنفة في قاعدة الهرم التراتبية، لأنها رضت بواقعها البائس واستسلمت للضعف من غير بذل جهد لتغيير أوضاعها المريضة، وهو التغيير الذي تفرضه الدينامية الطبيعية للذكاء، لذلك بقيت عقولهم راكدة وقد تجمدت فيها حركة التفكير والإبداع، ولم يصبحوا قادرين على ابتكار أي أثر له قيمة علمية أو فنية أو تقنية.

وعالمنا العربي -بخاصة- أصبح مِن ضمن من ينطبق عليهم هذا الوصف في الحركة والتفكير، رغم أن عقيدته الدينية تدعو إلى التحرر والانعتاق من أي سلوك عابث و قاتل للقريحة والموهبة، وقد تضمن الذكر الحكيم قواعد الأمر بالنهوض من الغفلة والركود والجمود، وأوجب النظر والتأمل والتفكير في حقائق الوجود والحياة، ونهى عن الاستسلام للضعف والأساليب المثبطة للعزيمة، فرغم هذه الدعوة الملحة وقد امتلآ بها تراثنا الديني والثقافي والفكري، إلا أن خلافه هو ما أصبح يميز حياة إنسان هذه العالم المحنط.

كان العالم في مجمله، واقعا تحت تأثير القوة الاستعمارية المهيمنة على عقول شعوبه وحركتهم وأنشطتهم، لذلك قتل في نفوسهم أيّ دافع يحرك في أنفسهم الرغبة في التحرر والانعتاق من طغيانه وجبروته، فتبلّدت قرائحهم وتجمدت الحركة الإبداعية في عقولهم، فلما أذنت الأقدار بتغيير اتجاهات الحركة، نهضت الشعوب وأعلنت ثوراتها التحريرية، فاستجاب لها القدر وتحررت من كوابيس الاستعمار المدمر، فلما تحررت فتحت العنان لعقولها، لتبحث وتنقب وتجرب وتبتكر، حتى وصلت إلى مستويات عليا من الابتكار والاختراع المبدع، فلما حققت ذلك، كيفت نظمها السياسية والإدارية والتعليمية مع دواعي التغيير التي فرضتها دينامية التغيير.

ومنذ ذلك اليوم نهضت الدول المتحررة، وأخذت تشق طريقها نحو الأفق البعيد في التطور والارتقاء، وسجلت سبقا مبتكرا في العلوم والفنون والتقنية، وأخذت في شق الجبال، وإقامة الجسور والأبنية العامرة بالأبراج والناطحات، والصروح والمعالم المميزة، ووفرت الأجواء النفسية والتربوية لتربية الناشئة، ولم يمض عليها سوى زمن يسير، حتى أصبحت تنافس الدول العظمى في التنمية الشاملة، مع أن الفلسفة العقدية لبعض هذه الدول، ليست إلا تعاليم روحية لا تزيد عن الترغيب في الزهد والتبتل والعزوف عن الدنيا، ومع ذلك تطوروا تطورا رهيبا.

ومما أصبح محل تندر وتعجب، أن أحد زعماء بلد عربي كبير، ظل يمني شعبه –في خطبه الحماسية- بأحلام وردية، ولما عرض عليه بلد آسيوي كبير، كانت تجمعهم أيديولوجية واحدة، عرض عليه شراكة تصنيعية، لكون البلد العربي –يومئذ- كان أحسن حالا من البلد الآسيوي الذي كان غارقا في الفقر والأمراض البدائية ونمو الكثافة السكانية، فما كان من الزعيم العربي إلا الرفض، لأنه قدّر أنه يحط من شأن بلده الذي كان تملؤه الدعاية الشعاراتية، حينما يعقد شراكة صناعية مع ذلك البلد الفقير.

والحال أن هذا البلد العربي مازال يعيش -اليوم- أوضاعا مأساوية، لاشتداد المنازعات والخصومات والانقلابات وتحطيم العلاقات الاجتماعية، وزاد عليها بتدهور الظروف المعيشية، وضعف التنمية وانتشار الفساد المالي، وسيطرة الأقليات الأيديولوجية على الرأي العام الذي تمثله غالبية الشعب، فاختل التوازن في العلاقات الاجتماعية الذي يعد المحرك الأساسي لأي حركة إبداعية أو ابتكارية، والاختلال في العلاقات الاجتماعية في الوطن العربي، لصالح فئات متغلبة مسندة من قوى احتكارية خارجية، هو ما قتل القرائح المبدعة في الضمير الفردي و الجمعي لإنسان هذه المنطقة، فلم يعد يقدر على إبداع أي فعل حركي مبدع .

وتنافس الزعامات على المكاسب الشخصية، وتقديمها على المنفعة العامة، هو ما مزق نسيج الروابط الاجتماعية والقومية بين المجموعات في الوطن الواحد، فضلا عن الوطن العربي الكبير، وانفصال الدول العربية عن تكتلاتها القومية، واستعداء بعضها على بعض، هو ما زاد من تفّكك وحدتهم و تهديم أي بناء كان يربط وشائج القربى بينهم ولو كان شكله مظهريا، على نحو ما فعلت دول التطبيع مع الكيان المغتصب، بغية الاستقواء على الجيران من أبناء ملتهم. مما زاد من تأجيج مشاعر البغض والكراهية فيما بينهم. وأصبحوا يتنافسون في الدسيسة بالكيد والمكر واستعداء الأجنبي على أمتهم الواحدة.

فالتماسك الاجتماعي والسياسي المتين، هو الذي يهيئ أجواء الهدوء والاستقرار النفسي، وهو المحرك الفعلي للطاقة الإبداعية، والمولّد للقدرات الابتكارية في الضمير الإنساني، وهذا ما يجب على الأمة العربية، أن تتداركه وتعمل على تحقيقه إن أرادت اللحاق بالركب الحضاري.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!