-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فرنسا‭..‬واللائكية.. ‬والإسلام

فرنسا‭..‬واللائكية.. ‬والإسلام

في الوقت الذي كنا نولي فيه وجوهنا شطر “الجماهيرية” سابقا، وليبيا الحاضر والمستقبل. وبينما كانت قلوبنا تدق نبضاتها على وقع المدافع، والصواريخ، والراجمات التي تقصف شعبنا الليبي الأعزل، في كل من مصراتة، والزاوية، والبريقة، ورأس لانوف، وغيرها…

وبينما عقولنا ومشاعرنا، تتفاعل كلها مع الشعب الذي يصنع ثورته في الغرب وفي الشرق من ليبيا.. فنعيش المشهد الدامي الذي يصنعه الكر والفر، والإقبال والإدبار بين الثائرين الذين يحملون أرواحهم إلى جانب الأسلحة، على أكفهم، فيكتبون في كل لحظة، فصولا من الاستبسال والبطولة، ضد فلول المرتزقة الخائفين من الغد. وفي اللحظات التاريخية التي تتأهب فيها الجماهير للانتصار على الفساد والاستبداد في كل من ليبيا، واليمن، بقطف ثمار التضحيات الجسيمة التي يبذلها شعبا ليبيا واليمن الغاليان، في هذا الوقت بالذات تفتح علينا فرنسا، واجهة سياسية أخرى، هي‭ ‬النقاش‭ ‬الدائر‭ ‬حول‭ ‬علمنة‭ ‬الإسلام،‭ ‬ولائكية‭ ‬المسلم،‭ ‬وعولمية‭ ‬الدولة‭.‬
إنه النقاش العقيم الذي قام على مقدمات فاسدة، لينتهي ولا شك إلى نتائج فاسدة، وما بني على باطل فهو باطل. كيف لنا أن نوفق بين أطراف هذه المعادلة الحائرة، التي تعلن فيها فرنسا اللائكية وقوفها إلى جانب القوى المدنية من الشعب الليبي المسلم، فتشارك بالحرب من أجل صنع السلام من جهة، وبين شن حرب إعلامية أخرى، على الجالية المسلمة في فرنسا، هذه الجالية التي لا ذنب لها، إلا أنها قالت ربي الله. (وما نقموا منهم، إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) سورة البروج. الآية: 8.
إنها معادلة، غير رياضية، بحيث يحتار المرء في البحث لها عن حل منطقي يفك ألغازها.. ذلك لأنها ـ كما قلنا ـ تقوم على مقدمات فاسدة.. وما فسادها إلا هذه العناصر المفككة التي تحاول أن تنسج لها شكلا هندسيا زواياه منحرفة.
إن‭ ‬أول‭ ‬مظهر‭ ‬لفساد‭ ‬هذه‭ ‬المعادلة‭ ‬أن‭ ‬يدعو‭ ‬لها‭ ‬طرف‭ ‬سياسي‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬فيزج‭ ‬بالإسلام‭ ‬البريء‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬انتخابية‭ ‬غير‭ ‬بريئة‭.. ‬في‭ ‬بلد‭ ‬يرفع‭ ‬شعار‭ ‬الديمقراطية‭. ‬
وثاني مظهر لفساد المعادلة أنها، بدل أن تكون قائمة على طرفي الدين في شموله، والعلمانية في عمومها، نجدها تختزل الدين في مظهره الإسلامي وحده، مستثنية من ذلك اليهودية والمسيحية، والبوذية، وغيرها، مما يوحي بموقف عنصري “إسلاموفوبي” و”أكسونوفوني” في هذا النقاش الدائر‭.‬
وثالث مظهر فساد لمعادلة “فرنسا الإسلام” إنها تنطلق من العلمانية أو اللائكية التي تتقيد بها فرنسا في نظام حكمها، والحال أن العلمانية أو اللائكية، تعني فيما تعنيه حياديتها بالنسبة لحرية المعتقد، وفصل الدين عن الدولة، في أي بند من أحكامها.
رابع المظاهر، إن القضية لو عولجت في جانبها العلمي، لأوكل أمرها إلى جامعة علمية معينة، أو مركز دراسات أكاديمي متميز، يضطلع بالأمر في كليهما، أكاديميون، علماء، من الباحثين المنصفين، الذين ديدنهم البحث عن الحقائق العلمية التي تطبع كلا من العلمانية بخصائصها المادية،‭ ‬والدين‭ ‬بمقوماته‭ ‬المادية‭ ‬والروحية‭ ‬معا،‭ ‬فينتهي‭ ‬البحث‭ ‬إلى‭ ‬إيجاد‭ ‬بعض‭ ‬نقاط‭ ‬الائتلاف‭ ‬أو‭ ‬الاختلاف‭ ‬بينهما‭.‬
ولكن ما الحيلة، وقد أسند الأمر إلى غير أهله في هذه “القضية” ذات الذنب الطويل؟ أيريد القائمون على فتح هذا الجدل العقيم، اليوم بالذات، إثبات عدم إمكانية التعايش بين العلمانية والإسلام؟ وإذا كان ذلك صحيحا، فماذا نفعل بالعلمانية في فرنسا، وماذا نفعل بالإسلام أيضا فيها؟ فهل تتخلى فرنسا، عن شرعيتها العلمانية التي تعلنها في الظاهر، لتجسد جوهرها الصحيح، وهو التشبث بالانتماء إلى التراث الثقافي “اليهودي المسيحي” التي تؤمن به في الباطن؟ أم أن فرنسا مع بقائها علمانية لائكية تنقلب على مبدئها، وتخرج عن حيادها وتطالب بإخراج‭ ‬الإسلام‭ ‬كدين‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬التعامل‭ ‬معها؟
‮ ‬إن‭ ‬المرء‭ ‬ليحار‭ ‬ـ‮ ‬حقا‭ ‬ـ‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬لهذه‭ ‬المقدمات‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬عناصر‭ ‬المعادلة‭ ‬الفرنسية‭ ‬اللائكية‭ ‬الإسلامية‭.‬
ولماذا كل هذا التحامل على الإسلام والمسلمين في فرنسا، وكلنا يعلم أن الإسلام كدين سماوي، هو دين محبة وأخوة، وتسامح، يبني ولا يبدد، ويحمي ولا يهدد، كما أن المسلمين في فرنسا ليسوا غزاة، أو عداة، وإنما هم بناة، وحماة، ساهموا في الدفاع عن فرنسا يوم كانت ضحية الغزو‭ ‬والعدوان‭ ‬في‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية،‭ ‬فسقت‭ ‬دماؤهم‭ ‬جبال‭ ‬الألب‭ ‬والبريني،‭ ‬لتحرير‭ ‬أرض‭ ‬فرنسا؟‭.‬
كما أن المسلمين ذوو فضل على فرنسا، حيث أنفقوا الأرق والعرق، فشاركوا في بناء ما انهدم، وأعادوا تشييع ما اندثر وما انعدم.. فالعمارات الشاهقة شاهدة على جهدهم، والبنايات الفاخرة حاملة لبصماتهم ووشماتهم. أهكذا يكون جزاء من حارب وعمر، ضد من غزا ودمر؟
ثم ما هو التهديد الذي يمثله المسلم في وجه الدولة العلمانية اللائكية التي من شعارها الحيادية في حرية المعتقد، وعدم التدخل في حياة الناس في المظهر والمقصد؟ هل الحجاب في رمزيته، والقميص أو الجلباب في مظهريته يزعج الفرنسي في لائكيته وحياديته؟
ومتى‭ ‬كان‭ ‬الخمار‭ ‬الإسلامي،‮ ‬مهددا‭ ‬للائكية‭ ‬الدولة،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬ـ‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الرمزية‭ ‬ـ‭ ‬عن‭ ‬القلنسوة‭ ‬التي‭ ‬يضعها‭ ‬اليهودي‭ ‬على‭ ‬مؤخرة‭ ‬رأسه،‭ ‬أو‭ ‬الصليب‭ ‬الذي‭ ‬يضعه‭ ‬المسيحي‭ ‬على‭ ‬جيد‭ ‬رقبته؟
إنه منطق غريب، يبحث له عن منطق صحيح، هذا الذي يفعله الساسة الفرنسيون، بالإسلام والمسلمين. فلم يسمع أن يدخل هؤلاء الساسة في طقوس بيعة اليهود، وكل ما في طقوسهم مناقض لمعنى العلمانية، ومناهض لروح الحداثة اللائكية، ولا يحتاج الدارس إلى ذكاء وفطنة، كي يدرك، أن لليهودي قوة من الدولار والأورو، تحميه، كما أن له قوة ضاغطة، من صناع القرار السياسي في العالم، تعضده وتقاوم من يؤذيه. في حين أن المسلمين، أكثر عددا، ولكن أقل ناصرا، وأن المال الإسلامي، يسيل على جوانب البنوك الغربية، ويراق خمره على حانات الفنادق الأوروبية، وصدق‭ ‬المثل‭ ‬العربي‮”‬‭”‬استضعفوك‭ ‬فوصفوك‮”‬‭.‬
والخلاصة، كيف سيكون مصير العلاقات الفرنسية الإسلامية، مستقبلا؟ هل ستعود الدولة الفرنسية إلى حقيقة لائكيتها، فتحجم عن إصدار القوانين الجائرة في حق المسلمين، فترفع وصايتها عن مساجدهم، وتضييقها على معاهدهم؟ أم هل سيتخلى المسلمون عن عقائدهم، باسم الاندماج في الجسم‭ ‬المادي‭ ‬الغريب‭ ‬عن‭ ‬روحهم؟‭ ‬
لن يحدث هذا أو ذاك، فالذي نعلمه أن بعض الساسة الفرنسيين، من منطلق العقدة التي تسكنهم، هم متسامحون مع الجميع، إلا مع المسلمين، وهم مستعدون للقيام بكل التنازلات، تطبيقا للائكية الدولة، مع كل المخالفين، إلا مع المسلمين.
كما أن المسلمين ـ من جهتهم ـ يرون في الإسلام، وسيلة لإثبات وجودهم، وطريقة لتثبيت هويتهم، ومنهجا قوميا لإبراز شخصيتهم. فهم لا ولن يقبلوا التخلي عن دينهم مهما كلفهم ذلك، وسواءً أكانوا مواطنين فرنسيين أو مقيمين شرعيين، فإن حقوق المواطنة والإقامة، تمنحهم كل خصائص‭ ‬الحياة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تتناقض‭ ‬مع‭ ‬معتقداتهم‭ ‬وهويتهم‭.‬
وإن من مصلحة السلطات الفرنسية ـ لو اتسمت بالحكمة ـ أن تعمل على صياغة المعتقد الإسلامي في قلوب وعقول معتنقي الإسلام، كي تصنع منهم متدينين بحق، يطبعهم التسامح في معاملاتهم، وتميزهم الأمانة والثقة في علاقاتهم، وممارسة المواطنة الصحيحة في تطبيقاتهم.
ويبقى قبل هذا، وبعد هذا على المنظمات الإسلامية، على اختلاف جنسياتها، وثقافتها أن تتوحد، حول الإسلام الصحيح، الذي يعلو على العصبيات، وينأى عن الغلو والتطرف من القناعات. وخير وسيلة لذلك الإقبال على العلم، والعودة إلى الدين، وذلك ببناء المعاهد والكليات التي تقدم‭ ‬العلم‭ ‬الصحيح‭ ‬للمناقشة،‭ ‬وإقامة‭ ‬المساجد‭ ‬التي‭ ‬تنشر‭ ‬الفهم‭ ‬السليم‭ ‬للإسلام،‭ ‬والسلوك‭ ‬القويم‭ ‬للمسلم،‭ ‬حتى‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬تعبده‭ ‬وتدينه‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وحق‭ ‬مواطنته‭ ‬ومدنيته‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬
ولن‭ ‬يتم‭ ‬هذا‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬اضطلع‭ ‬برسالة‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬عموما،‭ ‬وفي‭ ‬فرنسا‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬ذوو‭ ‬علم،‭ ‬وفهم،‭ ‬من‭ ‬كفاءات‭ ‬المسلمين،‭ ‬فيصبحوا‭ ‬المحاورين‭ ‬الحكماء،‭ ‬والمحامين‭ ‬عن‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسلمين‭ ‬البلغاء‭.‬
إن الثقافة الإسلامية، يجب أن تتعمق في نفوس المسلمين، منذ الحضانة، فتغرس في عقول الناشئة، معنى الانتماء الذي يتصدى لكل أنواع الإقصاء والإلغاء. كما على المسلمين أن يتعايشوا مع غيرهم، على أساس الندية في الحقوق والواجبات، والتمايز من حيث الخصوصيات والمقومات.
أما‭ ‬حملة‭ ‬الساسة‭ ‬المغرضين‭ ‬في‭ ‬تحريضهم‭ ‬ضد‭ ‬الإسلام،‭ ‬وتعريضهم‭ ‬به،‭ ‬فإنها‭ ‬ستكون‭ ‬بمثابة‭ ‬خيط‭  ‬العنكبوت،‭ ‬‮”‬وإن‭ ‬أوهن‭ ‬البيوت‭ ‬لبيت‭ ‬العنكبوت‭ ‬لو‭ ‬كانوا‭ ‬يعلمون‮”‬‭.‬
ذلك أن الغرب سيظل دوما، يكيل بمكيالين في تعامله مع الإسلام العقدي، ومع الإسلام الاقتصادي. فهو من جهة يتكالب على مشاريع البلاد الإسلامية من نفط، وخيرات، ولكنه في الوقت نفسه يضيق الخناق على كل ما هو إسلامي في بلاده.
كما أن الغرب، الذي يطالب بالحريات، ويطبق أسمى أنواع الديمقراطيات في مجتمعه، كان ولا يزال، الموطد لأركان المستبدين في بلاد المسلمين. وقد وصف الشاعر الساخر أحمد مطر هذه الازدواجية في قصيدته الساخرة “نعم أنا إرهابي” والتي جاء فيها:
الغرب‭ ‬يبكي‭ ‬خيفة إذا‭ ‬صنعت‭ ‬لعبة من‭ ‬علبة‭ ‬الثقابِ وهو‭ ‬الذي‭ ‬يصنع‭ ‬لي من‭ ‬جسدي‭ ‬مشنقة حبالها‭ ‬أعصابي والغرب‭ ‬يلتأ‭ ‬إذا عبدت‭ ‬ربا‭ ‬واحدا في‭ ‬هدأة‭ ‬المحرابِ وهو‭ ‬الذي‭ ‬يعجن‭ ‬لي من‭ ‬شعرات‭ ‬ذيله ومن‭ ‬تراب‭ ‬نعله ألفا‭ ‬من‭ ‬الأرباب ينصبهم‭ ‬فوق‭ ‬ذرا مزابل‭ ‬الألقاب لكي‭ ‬أكون‭ ‬عبدهم وكي‭ ‬أؤدي‭ ‬عندهم شعائر‭ ‬الذباب‭. ‬
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • Hassiba

    Celles qui désirent mettre le hidjab n'ont qu'à rester chez elles.