فرنسا دولة تفشل
في عام 1962 ورغم كل الإجراءات الوقائية التي اتخذها الاستعماري الكبير الجنرال شارل ديغول من تمكين لدفعة لاكوست وقوى الفرانكوفون المتسللة إلى الثورة الجزائرية ومحاصرة الجزائر من الشرق والغرب بنظامين تابعين لفرنسا، إلا أن فرنسا كما كان متوقعا هبطت من دول الدرجة الأولى إلى الدرجة الثانية، فقد كان استقلال الجزائر يعني فقدان فرنسا لبقرتها الحلوب كما كان حال بريطانيا مع الهند.
وقد سعت دفعة لاكوست وقوى الفرنكوفون من خلال سيطرتها على الدولة العميقة وسائر مقدرات الشعب الجزائري أن تظل الجزائر تلك البقرة حتى كاد يتحول استقلال الجزائر إلى علم ونشيد لامضمون لهما.. ولاتزال المحاولة جارية حتى اللحظة وليس أدل على ذلك من عدم جدية هذه القوى المسيطرة في رسم وتنفيذ سياسة التنوع الاقتصادي وظل الاقتصاد مرتبطا بفرنسا بنسبة تكاد تصل إلى مائة في المائة.
ومع ذلك هبطت فرنسا عن رأس السلم.. خاصة مع فشل محاولة المدعو خالد نزار وانقلابه الشهير عام 1992 بإعادة شد صواميل ربط الجزائر بفرنسا، وهاهي فرنسا في عام 2016 يصفها المحللون السياسيون من أصدقائها الأمريكان بأنها دولة شبه فاشلة …
وتجلى فشل فرنسا في عدة مواقف ومحطات، حتى إن مقولة الأمريكان في تسعينيات القرن العشرين أن الأمور تتجه من فرنسة الجزائر إلى جزأرة فرنسا تكاد تصبح هذه الأيام واقعا معلنا بعد أن ظل واقعا سريا منذ سنين ليست قليلة؛ حيث تتجه بعض النخب الفرنسية إلى إدخال اللغة العربية والأمازيغية في التعليم الفرنسي، كما برهنت استطلاعات رأي غير جزائرية وغير فرنسية أن الجزائريين يتجهون نحو الأنجليزية كلغة أجنبية أولى ويتخلون عن الفرنسية.
وما علينا هنا إلا القول بأنه من المؤكد أن السيدة بن غبريط وزيرة التعليم عندنا، وهي من إنتاج تلك القوى المرتبطة بفرنسا إلا أن تندب وتجرح خدودها حتى الإدماء، وهي ترى أنها لم تحصد أكثر مما حصده جدها بن غبريط، حين راح على رأس وفد إلى مكة عام 1916 ليقنع شريفها الحسين بن علي بفك ارتباطه مع الإنجليز، ويعتمد على فرنسا في ثورته على الأتراك.. فعاد خائبا في فرنسا الآن معركة فريدة من نوعها كل الأطراف فيها تقود الدولة والمجتمع إلى الفشل، فاليسار الحاكم بقيادة هولاند اتخذ ويتخذ من الإجراءات ما يصب في مصلحة اليمين الرأسمالي.. ويكون بهذا قد فقد البوصلة فلا هو من اليمين ولا هو من اليسار، وهذا طريق الفشل المؤكد، وأما اليمين فزعيمه القاتل ساركوزي يلعب مع الشعب الفرنسي لعبة الأكروبات يتشقلب ماشاء له التشقلب، بينما هذا الشعب يرى أن قتل ساركوزي للقذافي لأنه كان ينوي إصدار عملة إفريقية مغطاة بالذهب، فتكون أقوى عملة عرفها التاريخ، حيث تغطى بالذهب والنفط معا، فخسرت فرنسا ليبيا والذهب والنفط، وراحت تقنع دولة الإمارات العربية بإقامة قاعدة في جيبوتي مستعمرتها وقاعدتها في القرن الإفريقي وبلغة أخرى أدخل ساركوزي بلاده على سكة التسول من الإمارات والسعودية على طريقة الإتحاد السوفياتي، في أخر أيامه، حين تسول دولة عربية أن تشتري منه سلاحا ليسدد ديون القمح لأمريكا، ومع أن تلك الدولة اشترت السلاح الذي لم تكن تحتاجه، وحوّلته إلى دولة عربية إلا أن الإتحاد السوفياتي فشل وانتهى.
وفي اليمين الفرنسي أيضا ماري لوبان ابنة المخبر الفرنسي الذي أسس حزبا سياسيا ورثته حزب يمشي بعقلية الأمن الفرنسي.. وهنا الطامة الكبرى فعقلية هذا الأمن كعقلية الأمن الإسرائيلي يفتعل المشاكل بل والحروب من أجل أن يحافظ لدى أسياده شعور الحاجة إليه، فلابد من المشاكل للحفاظ على وظيفة شرطي ..
وهكذا تخترع ماري لوبان المشاكل مع الأجانب وخاصة مع الجزائريين، وتنسى أن وجود هؤلاء الجزائريين منذ 1904 كان بهدف إيجاد أيدي عاملة لتحريك الاقتصاد الفرنسي، فقد بنت فرنسا نصرها في الحربين الأولى والثانية بسواعد الجزائريين في مصانعها وحقولها وبدمائهم في جيوشها.. فلم يكن من الرجال الفرنسيين ما يكفي للاقتصاد والحرب.. ونحن الآن نرى بوضوح أن ليس في فرنسا بل وفي أوروبا ما يكفي من البشر الرجال والنساء لإدارة الحرب والاقتصاد وفرنسا التي تفشل في حروبها في إفريقيا وفي الشرق الأوسط، ومع تدحرجها من الدرجة الأولى على الدرجة الثانية في التجارة مع الجزائر تنفتح فيها معركة اجتماعية ناتجة عن عقلها الاستعماري والأمني ويسارها الذي يصب في اليمين واختراعا للمشاكل في مستعمراتها السابقة ومعاداتها التاريخية للعربية والعروبة والإسلام، تدخل معركة مع ذاتها بذاتها، فحكاية ما سمي بالبوركيني حينا وبالإسلامي حينا آخر، تدخل دور الأزياء التي اشتهرت بها فرنسا في صراع على الجبهة الاقتصادية.
فقد لايعلم قرائي أن مصممة هذا الزي هي سيدة أسترالية مسلمة من لبنان معقل الفرانكوفونية والنفوذ الفرنسي في العالم العربي، وأن حماقة بعض رؤساء البلديات الفرنسية أصحاب الصلة بماري لوبان جعلت هذا الزي المخصص للبحر، يبدأ في الانتشار على شواطئ العالم، وأن لدى هذه السيدة الأسترالية من الطلبات حتى الآن ما يغطي انتاجها للسنوات الخمس القادمة، أي أن البوركيني أدخل استراليا إلى اقتصاد الأزياء العالمي.. وهو ما يدخل الاقتصاد الفرنسي في خسارة جد مؤكدة، ومعنى هذا أن الجالية الجزائرية في فرنسا التي يعتمد عليها الإقتصاد الفرنسي خاصة في ميدان الأعمال الصعبة صار بإمكانها أن تهدد هذا الإقتصاد، ألا يعني هذا فشل الدولة الفرنسية من خلال مجتمعها نفسه، وهو الفشل الذي حققه عقله الأمني، حيث إن كل المتهمين بالإرهاب، سواء كانوا من أصول فرنسية محضة أم جزائرية هم نتاج مدرستها ومجتمعها برمته، وأكثر من ذلك فإن القراء يعلمون أن أكثر المقاتلين الأجانب في تنظيم داعش الإرهابي هم من الفرنسيين.
وهكذا لم يعد لدى كثير من المحللين العالميين، وخاصة الأمريكان منهم شك في أن فرنسا هي دولة شبه فاشلة اليوم، وتقودها نخبتها اليمينية أو اليسارية نحو فشل مؤكد لن يتمكن الاتحاد الأروبي من تخفيف سرعته، خاصة وأن هذا الاتحاد أوصله البريطانيون إلى بوابة غرفة الإنعاش.
الطريف في الوضع الفرنسي هو قوة الفرانكوفون الجزائرية، فلا زالت هذه القوة المسيطرة على دواليب الدولة الجزائرية واقتصادها، لازالت تخوض معارك فرنسا القديمة ضد المجتمع الجزائري، فهاهي تريد فرض شروط المدرسة الفرنسية -التي أتجت مقاتلي داعش- على المجتمع الجزائري وهي التي مكنت أكثر من 450 شركة فرنسية من الاقتصاد الجزائري دون فائدة واضحة للجزائر، وهي التي طردت المستثمرين العرب، وعرقلت المستثمرين الأمريكان والإنجليز وحتى الألمان، بل إنها شنت حربا بلا هوادة على شكيب خليل لأنه خلص البترول الجزائري وإن بشكل نسبي من هيمنة الاحتكار الفرنسي.
فبأي عقلية يعمل الفرانكوفون الجزائري.. سوى عقلية الرقيق الذي يكون أشد قسوة من سيده؟