-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فريضة القراءة وتطويع الزمنين الأفقي والعمودي

فريضة القراءة وتطويع الزمنين الأفقي والعمودي

زرتُ قبل ست سنين تركيا لحضور ملتقى دعوي وفكري عالمي متميز، وكان من بين الحضور يومها عميد جامعة تركية تُدَّرِسُ معارف الوحي المقدسة باللغة العربية بين مجموع عشرات الجامعات التركية التي تعتز بتدريس سائر العلوم -بما فيها العلوم الدينية- باللغة التركية. وقد احتفى بي عميدُها بشكل شخصي بعد أن أهديته عشرين كتابا من كتبي التعليمية والثقافية والفكرية الدينية المطبوعة في مصر وقطر والكويت والجزائر، والتي أُدرِّسُ بعضها في كلية العلوم الإسلامية بجامعة باتنة 1 التي أعمل فيها أستاذا منذ ثلاثين سنة.

وقد فاجأني ذلك العميدُ الذكي وهو يُطل عليَّ من خلال نظارته ويرمقني بحدة بعيونه الزرقاء وأنا أسأله عن عمر الجامعة الحقيقي وسنة تأسيسها وبداية التدريس فيها، قائلا لي: إن لانطلاق التدريس والعمل في جامعتنا تاريخين، أحدهما: حقيقي فعلي واقعي، وثانيهما: افتراضي يدخل في فهمنا وفلسفتنا ورؤيتنا وتصورنا للزمن. استغربت من هذا الطرح  الفلسفي الماورائي، والذي -في اعتقادي- لا يمكن أن يصدر إلاّ عن مفكرٍ وعالمٍ وفقيه وخبير وفيلسوف موسوعي؛ إذ لم أعهد هذا الفهم الدقيق للزمن، إلّا من خلال كتابات الراحل الشهيد (سيد قطب ت 1966م)، الذي يُعدّ المسلم الحقيقي الفاقِهُ لدينه ولرسالته الإسلامية الخالدة بأنه جوهر وحقيقة وصلب الامتداد لمن سبقه في عالم الهدى والرشاد.. وقائمٌ بالحق والهدى في زمانه القصير.. ولاحقٌ لمن سيأتي بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وعليه، فحياته إن حسبها من بداية استقباله الحياة وعيشه وموته، تبدو له قصيرة ضئيلة وضيّقة أيضا، وإن حسبها أنها تبدأ منذ ولادة سيدنا آدم عليه السلام مارة بدعوات الأنبياء والمرسلين والصالحين، ولا تنتهي بموته بل ستستمر ما أراد الله أن تبقى (يوم نطوي السماء كطيّ السجل للكتاب. كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا..) يكون قد امتد عمره بطول عمر الفكرة والقيمة والرسالة، وهذا فهمٌ عميق وعصي عن أراذل وبادي الرأي من عمائم المستأجَرين المسيطرين على الساحة الدعوية الفارغة من الفهم السوي لاستمرار عظمة وتقدم الإسلام والمسلمين المضيِّعين لفريضة القراءة.. تحت مسميات وضلال ولغو مشايخ ودعاة النهي عن مفسدة القراءة، التي راح ضحيتها الملايين من الشباب المسلم.

يتمثل الزمن الأفقي -بحسبه وجامعته- في احتساب أعمار الأساتذة العاملين في الجامعة، إذ يُعطى لكل أستاذ عمرٌ افتراضيٌّ وليس زمنيا، والعمر الافتراضي الأفقي لكل أستاذ يتحدد بإعطاء كل كتابٍ يؤلفه الأستاذ سنة زمنية، فهو يكتسب عمرا بمقدار الكتب التي ألفها. وهم لا يقبلون التدريس في جامعتهم كحد أدنى إلاّ من ألف ثلاثين كتابا، وبالتالي يرمزون لهذا الأستاذ بعمره الافتراضي وهو ثلاثون سنة. ومن ألف أربعين كتابا عمره أربعون سنة.

ثم انطلق الرجل يشرح لي بتلقائية واعتزاز وثقة وبلغة عربية فصيحة يتخللها حرف (الواو) الذي يرطنه إخواننا الأتراك بـ(ف) (V) ما يزيد نغمة وتألق لسانه العربي ذي الخصوصية التركية جمالا وروعة وطربا، قائلا لي: إن تاريخ تأسيسها وإنشائها يعود إلى ثلاثين سنة خلت، وقد بدأتْ التدريس بنسبة خمسين بالمائة مناصفة بين اللغة العربية والتركية، إلى أن صارت غالبية لغة التدريس تتم باللغة العربية.

وقد فهمت هذا بسرعة وبساطة، لأننا في منظومتنا المتخلفة لا نعرف سوى الزمن العمودي فقط، وأي زمان عمودي نعرف؟ إذ لا قيمة للزمن ولا للوقت في حياتنا البائسة.. ولكني ظللتُ محتارا متوقفا عند تفهّم قصده من الزمن الأفقي، فسألته، وهل يمكن أن تشرح لي ما تقصده من الزمن الأفقي؟ فانطلق يشرح لي كنهه.

يتمثل الزمن الأفقي -بحسبه وجامعته- في احتساب أعمار الأساتذة العاملين في الجامعة، إذ يُعطى لكل أستاذ عمرٌ افتراضيٌّ وليس زمنيا، والعمر الافتراضي الأفقي لكل أستاذ يتحدد بإعطاء كل كتابٍ يؤلفه الأستاذ سنة زمنية، فهو يكتسب عمرا بمقدار الكتب التي ألفها. وهم لا يقبلون التدريس في جامعتهم كحد أدنى إلاّ من ألف ثلاثين كتابا، وبالتالي يرمزون لهذا الأستاذ بعمره الافتراضي وهو ثلاثون سنة. ومن ألف أربعين كتابا عمره أربعون سنة، ومن ألف خمسين وستين وسبعين.. وهكذا. وعليه يكون عمر الجامعة الافتراضي أكبر بكثير من عمرها الحقيقي. ثم حدَّقَ فيَّ مقطّبا حواجبه هذه المرة، وقال لي بالحرف الواحد: إن عمر جامعتنا الافتراضي ثمانمائة سنة باحتساب عدد كُتب العاملين فيها.. وهنا اسوّدتْ الآفاقُ الرحبة بين ناظري وانتابتني وألمّت بي، بل اجتاحتني سيولٌ من الألم والحسرة والقهر والذلة والسواد على واقعنا الجزائري البائس في ظل هيمنة الهُمّل من العلمانيين واليساريين المستلبين لليهود والنصارى والمؤسسات الدولية المشبوهة.. وقد تضبّبت وتعكّرت جماليات الصور في مخيلتي، وتركته يشرح ويتفلسف وأنا أنظر إليه فقط، وأنا منطوٍ على نفسي، أهز إليه برأسي فقط إشارة مني بأني أتابعه، وانقلبتُ على نفسي مخاطبا إياها قائلا: ليت مديري جامعاتنا وعمداءنا ورؤساء أقسامنا ولجاننا ومجالسنا العلمية وزملاءنا الأساتذة يستمعون إلى تصنيف وترتيب وتسيير الجامعات، ويتبيّنون كم نحن في الحضيض.. وخاطبت نفسي قائلا: نفسي: هو يريد أن يقول لك أشياء كثيرة، لعل أهمها معلومة يجب أن تعيها جيدا وهي: ماذا تساوي كتُبك العشرين التي أهديتها لمكتبة جامعتنا؟ فأنت عمرك عشرون أو بضع وعشرون سنة.

وتم الملتقى والحمد لله وعدتُ يقهرني ويذلني طريقة حديثه الماكرة معي، بالرغم من إعجابه بكتابي (منهج الدعوة عند أنبياء الله) الذي نفدتْ طبعاتُه، والذي استأذنني لنقله إلى التركية وتدريسه، فأذنت له، ولعلها كانت فسحتي ومتنفسّي وسلواي من خياله الماثل بين ناظري والذي ظل يطاردني في رحلة العودة بالطائرة من إسطنبول إلى مطار قسنطينة.

ولكم انتابتني بين الفينة والفينة مشاهد حديثه معي حتى استفقت على وقع وخلاصة وجوهر الفكرة (تحويل الزمني العمودي إلى الزمن الأفقي)، وتساءلت في نفسي قائلا: كيف سأمدِّد عمري وأطأ الزمن العمودي بقدمي وأحوِّله إلى زمن أفقي؟ وكيف يمكنني أن أتمدد زمنيا أكثر من عمري الحقيقي؟ وأجبت مسرعا ودونما تفكير وأنا أنظر إلى كتاب (جماعة المسلمين ورابطتها للشيخ عبد السلام ياسين) الذي أُهدِي إليّ في اسطنبول: صائحا بالقراءة بالقراءة.. إنها المربع الأول للمنهج الرباني (إقرأ. باسم ربك..)، إنها بداية مسيرة الإسلام، إنها الفريضة الغائبة..  وبالقراءة وحدها يتمدّد عمر الإنسان عبر الزمنين العمودي والأفقي. وكيف يكون ذلك؟ إن ذلك يكون بتذكر مسيرتي مع عالم القراءة.

وانطلقت متداعيا نحو الزمن، وأجبت نفسي قائلا: أنا بدأت القراءة منذ خمسين سنة 1972-2022م، ومازلت أذكر أسماء الكتب التي اقتنيتها منذ خمسين وأربعين وثلاثين وعشرين سنة، وكذلك سائر الكتب التي اقتنيتها أو استلفتها من المكتبات الخاصة أو العامة، وتعلمت من مشايخي وأساتذتي بالشام أن أُقَسِّمَ اليوم إلى ثلاثة أثلاث، ثلث للنوم، وثلث لتكاليف الحياة، وثلث لطلب العلم، فأنا في نظر مشايخي لا أساوي شيئا من غير طلب العلم، ووزني الحقيقي يكون بعدد ما قرأت واقتنيت واستلفت من الكتب.. وهكذا كانت فلسفة مشايخي ونظرتهم لطالب العلم، إذ يُوزَن طالب العلم منا بعدد ما قرأ وما استلف وما اقتنى.. ومن خرج عن هذا السبيل لا يُعد في نظرهم طالب علم، على العكس مما هو حاصلٌ اليوم في زماننا الأرعن.. مما يدبِّره عمائم الفتنة والتطاحن والصراع والجدل.. الذين ينهون طلبتهم عن طلب القراءة، عدا ما ينفثه فيهم من السموم الفِرَقيةِ باسم الخوف والخشية على الطلبة من البدعة.. والخوف الحقيقي القادم من الجهل والعمى والأمية التي عليها غالبية الشباب الجاهل..

فكيف أتمدد عبر الزمن الأفقي وأُطَوِّعُ الزمن العمودي بالقراءة؟ إن ذلك التمدد عبر الأزمنة يكون بمقدار قراءاتك.. فكلما قرأتَ كتابا اشتركتَ مع كاتبه ومؤلفه في تلك الحقبة التي عاشها، فمن قرأ كتبا في قصص الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام قراءة جيِّدة وعميقة وصحيحة يكون قد عاش وشارك وخالط وامتد في زمانهم وأماكنهم وسافر ورحل وأقام معهم، وبالتالي فقد عاش مع أبي البشرية آدم عليه الصلاة والسلام وشهد ما شهده من وقائع وأحداث إلى وفاته.. وهكذا مع سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.. وهكذا عاش معهم مئات بل آلاف السنين.. ومن قرأ سيرة رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم قراءة جيدة وعميقة وصحيحة يكون قد عاش سيرة رسول الإسلام من بداية جدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل 1800 سنة ق. م إلى تاريخ ميلاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سنة 570م وأصله وفصله ونشأته وتربيته وطفولته.. وصولا إلى دعوته ووفاته عليه الصلاة والسلام  في634م 11هـ، ومن قرأ تاريخ الإسلام والخلافة والدول الإسلامية مثلا سيجد نفسه أنه قرأ حقبا زمنية مديدة تمتدّ مئات السنين، وكلما قرأ امتدّ عمره.. وهكذا، وإن أراد أن يحسب عمره سيجد أن عمره امتدّ لا بعدد الكتب فقط، بل بعدد الأزمنة التي غاص فيها الكتاب.. وهكذا ما يكاد يأتي عليه عمرُه المقدر بستين أو سبعين أو ثمانين سنة، إلاّ ويجد عمره قد امتد لآلاف السنين، فإن سألوه كم عمرك؟ يقول عمري عشرون ألف سنة لأنني قرأت خلال نصف قرن عشرين ألف كتاب.

وأذكر أن أحدا سألني كم قرأت في تاريخ الثورة الجزائرية حتى تتجرأ وتكتب فيها؟ فأجبته مازحا جادا معا: لقد قرأت ألفين ومائتين وخمسين سنة. فقال كيف؟ فأجبته بالمعادلة التالية:

300 كتاب ومذكرة × 7،5سنة = 2250 سنة، فأنا عمري مع تاريخ الثورة بمقدار الأزمنة التي عشتها مع كتابها وأصحابها.. دون احتساب تاريخ الحركة الوطنية.. فقل لي: كم قرأت أقول لك كم عمرك.. والمهم عندي: أللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!