-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فضيحة الفلسفة الغربية وسقوط مزاعمها الإنسانية والكونية

د. حسين بوبيدي
  • 565
  • 0
فضيحة الفلسفة الغربية وسقوط مزاعمها الإنسانية والكونية

يمثّل العقل الغربي اليوم التمثّل الواقعي للفلسفة الغربية بمختلف مدارسها، والتي تشكلت تدريجيا لتكون المنظومة المعرفية التي يصدر عنها الإنسان في الغرب كبديل للدين المسيحي ومؤسساته، فقد أعاد العصر المسمى أوروبيًّا: عصر التنوير في القرنين: 17 و18م تشكيل طريقة تفكير الإنسان في الغرب ونظرته للأشياء وللحياة،
ومع أن التحول الفكري لا يكون قطيعة مباشرة مع الماضي، فإن نجاح الثورة الفرنسية سنة: 1789م بعد نكسات كثيرة، وامتداد هذا التأثير إلى مختلف المناطق التي كانت تؤطرها الكنيسة قد قاد في النهاية إلى ظهور أوروبا مختلفة، ومنها انتقلت هذه التصورات إلى عوالم جديدة أدمِجت في المسار ذاته.
أعادت المجتمعات الغربية بناء سردية متخيّلة لتاريخها، استعاضت عن المسيحية بالفلسفة، وتجاوزت بولص نحو سقراط، وصار الفلاسفة يحتلون في العقل الغربي مكانة الأنبياء، باعتبارهم صناع الأفكار والنظم والقوانين والسياسات والعلاقات الاجتماعية، وسمح التقدم العلمي والمادي الذي شهده العالم الغربي بترسيخ سردية تربط دوما النجاحات التي تحققت بالقطيعة مع الميراث القرووسطي؛ وفي مقدمته الفكر الديني، ليكون العلماء الذين واجهوه أو تحملوا أحكامه بمثابة شهداء التنوير والحضارة والعلم، وقُدِّمت هذه النتائج كقضايا مسلّمة لم تستطع الآراء المخالفة لها أن تواجهها بعد أن صارت أدوات السلطة ذاتها ومؤسسات التنشئة الاجتماعية تخدم هذه السردية حول تاريخ العلم وتطوره.
إن أهم نجاح حقَّقته الفلسفة في العالم الغربي هو قدرتها على بناء جدار حديدي يؤطر النقاش الفكري، فلم تعُد هناك إمكانية لنقد هذا التيار الجارف من خارجه، باعتبار هذا النقد إما أنه قادم من الخطابات الدينية التي جرى تصويرها على أنها عوالم سحرية قد تمكّن العلم من نزع الأسطرة عنها، وردّها إلى حقيقتها السوسيوتاريخية، ومن ثمة تجاوزها في أبحاث العقل والعقلانية، أو أنها آراء تنتمي إلى أمم متخلفة لا يمكن أن تقدم للبشرية تفكيرا عميقا، بل إن واجب الغرب ذاته هو إيصال رسالته الحضارية إليها لإخراجها من ظلمات الشرق العاتمة إلى أنوار الغرب المبهرة. وخلف هذا النمط من التفكير العنصري جاءت الحركة الاستعمارية بنتائجها الكارثية على شعوب العالم التي تحوّلت إلى مجرد عبيد في خدمة الشعوب الأوربية.
إن النقد الذي يحدث داخل “السياج الدوغمائي الغربي” مهما كانت حدّته لا يمكنه أن يطيح بمنظومته المعرفية التي تشكلت وفق غايات محددة توجد الآن في جوهر هذا الخطاب؛ أي باعتباره عنصريا، استغلاليا، تدميريا؛ عنصريا لأنه غير قادر على الاستماع إلى الآخر خارج سياجه، والذي يرى دائما أنه متقدِّم عليه بمسافات طويلة جدا، يعتقد بسببها أن مخالفة الآخر له ليس سوى عجز من العالم المتخلف عن إدراك كنه رسالة التنوير والحداثة وما بعدها.
واستغلاليا لأن تشكّل هذا الفكر انتصاره غير منفكّ عن الصراعات الطبقية في أوربا، والتي حاولت فيها الطبقة البورجوازية التجارية أن تطيح بالإقطاعيات الزراعية التي كانت للنبلاء، وامتدَّ هذا التوجه البراغماتي الاستغلالي ينتج المبررات التي تسمح له بنهب الشعوب والاستحواذ على خيراتها.
وتدميريًّا لأن تشكل هذا المجتمع الغربي الجديد رافقه زحفه على العالم في الحركة الاستعمارية طيلة القرنين 19 و20، فمثّل الاستعمار في هذا العقل عنوانًا للقوة والقدرة على إخضاع الآخر، ورأى أن العقل الجديد المستند إلى الفلسفات هو الذي سمح له ليتحول إلى “إله أرضي” يريد أن يحافظ على استعباد البشرية إلى غاية اليوم.
كان تلقِّي العالم العربي لهذه الفلسفات داخل تداعيات الحركة الاستعمارية، فقد انتقل العقل العربي من البحث عن حلول لمشكلاته داخل تراثه إلى البحث عنها داخل تراث أوروبا، وقد اقتنع الكثيرُ من المشتغلين بالفلسفة أن التراث الإسلامي عنوانٌ للظلام الذي يجب تجاوزه، وأن التراث الإغريقي والروماني مدخلٌ للتنوير الذي يجب سلوك طريقه، وسايروا أوربا في العمل على تحقيق قطيعة مع الدين في مجتمعاتهم الشرقية، وهكذا وضعوا الإسلام محل المسيحية وعملوا على إزاحته كما أزيحت، ومنعِه من أن يكون منطلق تشكيل الفرد من خلال مصادرة خطابه والتحكم فيه وتوجيهه، والتخطيط لإقصائه التام؛ لأنه -عندهم- امتدادٌ لحقبة تمثل التخلف والنكوص، وقد ورثت الكثيرُ من الدول إقصاء الشريعة عن القضاء من الاستعمار التي انتصرت عليه وتحررت منه عسكريًّا، وقزمت دورها ليقتصر على الأحوال الشخصية، وحتى هذه الأخيرة التي لم تسلم في دول أخرى حقّقت فيه نظمُ الاستقلال ما عجز عنه الاستعمار ذاته، ولم تعد المناهج التربوية تحمل روحا إسلامية بعد أن جرى الفصل المزعوم بين العلوم الشرعية والتخصصات العلمية، أي بين بناء شخصية الفرد، وبين استغلاله قدراته العقلية ليكون آلة من دون إرادة وهوية.

إن الذي ينبغي أن يشتغل عليه طلاب الفلسفة وباحثوها اليوم ليس التنقيب بين ركام فلاسفة الغرب عن بعض الأصوات التي تحررت من هيمنة البراديغم المتمركز على ذاتٍ عنصرية استعمارية مدمرة؛ بل العمل على المشاريع التي تفضح الخلفيات الفلسفية للسياسات الاستعمارية الغربية، وتُبرز التحيزات الموجودة في هذه الفلسفات، وتعريتها أمام القارئ حتى لا ننتج لعقود لاحقة عقولا تظن أن النموذج الغربي هو الحل لمشكلاتنا.

لقد استهلك العالم العربي والإسلامي أكثر من قرن من الزمن في ربقة التقليد الفلسفي وأسرِه، يترجم ويعمل على تطبيق ما يترجمه، وانقسم مثقفوه بين التيارات الغربية التي عبَّرت عن مشكلاتها الاجتماعية وصراعاتها الفكرية والسياسية، وهكذا صيروا أنفسهم –من دون أن يقيم لهم الغرب اعتبارا- أحد تمظهرات الجدل الفلسفي الغربي، فكتبوا ضمن الاصطفافات الغربية، وصنَّف بعضُهم بعضهم الآخر انطلاقا منها، وأفنى البعض زهرة شبابه واستهلك قدراته التفكيرية يعالج للغرب مشكلاته، ويساهم معه بلغة لا يفهمها الغرب في النقد داخل السياج الدوغمائي المرسوم للفلسفات المختلفة، متجاوزا مشاكل الأمة التي ينتمي إليها، متناسيا البُعد التطبيقي والوظيفي للفلسفة، والرسالة التنويرية التي لا يراها إلا ضمن مفهوم الغرب للتنوير.
لقد اصدم الكثيرُ من المشتغلين بالفلسفة في عالمنا العربي من موقف العقل الغربي المتفلسف، وخاصة من إدغار موران “زعيم اليسار الإنساني” المزعوم، الذي صرَّح في بداية العدوان بما يبرز أنه يرى العالم من داخل يهوديته وفلسفته الإقصائية فقال: “إن إدراج أحداث 7 أكتوبر الفظيعة في سياقها، وهو أمرٌ ضروري لكل فهم، يضعها أولاً وقبل كل شيء في التاريخ الطويل للشعب الإسرائيلي، ضحية ألفية من عداء النزعة اليهودية المسيحية، تلتها نزعة العداء السامية العنصرية التي كانت تكره [ذلك الشعب] إلى حدِّ الرغبة في إبادته، ما جعل الوطن الإسرائيلي مُحاطًا منذ فترة طويلة بعداء دول معادية”، ومع أنه لاحقا تحت أثر التنديد الواسع بتصريحه، وتصاعد مشاهد الوحشية في العدوان الصهيوني قد عدّل موقفه، لكن دمن ون أن يبلغ حدّ الاصطفاف مع الطرف المعتدى عليه، مبرزا عدم قدرته على تجاوز السردية الصهيونية للحادث.
ومثل إدغار موران؛ تعجَّب بعض مثقفينا الواقعين في أسر العقل الغربي من فيلسوف التواصلية المزعومة: يورغن هابرماس، الذي وقع على عريضة يدعم فيها العدوان الإسرائيلي على غزة، فعادوا يفتِّشون عن خلفيات هذا الموقف، كأنهم صدَّقوا أن الغرب ينطق عن حياد معرفي، ويؤمن حقيقة بالتسامح، والإنسانية، والأخوّة، والحرية، والمساواة، وأعادوا فحص كتابات عديدة ليكتشفوا أن المركزية الأوروبية سياجٌ حاكم على غيره، وفي هذا السياق كتب عبد الله السيد ولد أباه: “على الرغم من تشبُّث هابرماس بالنموذج التواصلي المفتوح القائم على التداول البرهاني الحر، إلا أنه في الحقيقة لم يسعَ يومًا إلى اكتشاف الثقافات الأخرى، بما يبرز جليًّا في كتابه الأخير حول تاريخ الفلسفة الذي ينطلق فيه من مركزية اللاهوت الأوروبي في تشكّل المنظومات الفلسفية (…) هابرماس عاجزٌ عن التفكير خارج مقاييس الكونية الغربية حيث تشكّل الحالة الإسرائيلية امتدادًا طبيعيًّا للسياق الأوروبي”.
لقد كان كافيا النظر إلى سياسات الغرب لإدراك نفاق الفلسفة التي تمثّل أفُقَه المعرفي. إن السياسات الاستعمارية العنصرية الغربية النابعة من تفكير مادي لا علاقة له بالأخلاق ومنظومات القيم الإنسانية، ولا ارتباط لها بفكرة الخير والشر هي أدلُّ على المنتوج الفلسفي واقعيّا من الكتابات والتنظيرات الفارغة التي تفضحها الوقائع، وقد لاحظنا في الحرب الأوكرانية كيف أدخل العالمُ الغربي في معاقبة روسيا كل مظاهر المقاطعة التي كان يرفض أن تسيَّس عندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي عموما وقضيته المركزية الفلسطينية بشكل أخص، فلم يستثن الرياضة والمسرح والموسيقى وغيرها من التظاهرات الثقافية، وانطلق يهلل للمقاومة الأوكرانية ويشَرْعنها ويمجّدها ويدعمها، بينما كان ولا يزال يراها في فلسطين وأفغانستان والعراق وغيرها “إرهابا” تجب محاربته، بل عجزت فرنسا إلى اليوم أن تقدِّم اعتذارا عن عقود الإجرام الوحشي والظلم والقهر الممارسَ طيلة 132 سنة كاملة ضدّ الجزائريين.
إن الذي ينبغي أن يشتغل عليه طلاب الفلسفة وباحثوها اليوم ليس التنقيب بين ركام فلاسفة الغرب عن بعض الأصوات التي تحررت من هيمنة البراديغم المتمركز على ذاتٍ عنصرية استعمارية مدمرة؛ بل العمل على المشاريع التي تفضح الخلفيات الفلسفية للسياسات الاستعمارية الغربية، وتُبرز التحيزات الموجودة في هذه الفلسفات، وتعريتها أمام القارئ حتى لا ننتج لعقود لاحقة عقولا تظن أن النموذج الغربي هو الحل لمشكلاتنا، وفي هذا السياق سنجد في كتابات إدوارد سعيد ووائل حلاق ومحمود ممداني وحميد دباشي وطه عبد الرحمن وغيرهم من الفلاسفة الناقدين للعقل الغربي منطلقا يكشف لنا عن حقيقة هذه الفلسفات التي لم تستطع أن تندد بمقتل عشرات آلاف الأبرياء؛ فقط لأنهم مسلمون.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!