الرأي

فكر محمد شحرور.. تحكيم للعقل أم محاكمة للنقل؟

محمد بوالروايح
  • 2294
  • 5

محمد شحرور شخصية فكرية مثيرة للجدل، يصفه أتباعُه بأنه من صنف الباحثين الذين لا يشق لهم غبار في عالم الأفكار ولا يرضون بأنصاف الحقائق ولا يقبلون النصوص على علاتها ولا يعترفون بالطابوية والمنطقة المحرمة التي يعدّونها شكلا من أشكال تقييد العقل وتمجيد النقل، ويصفه مخالفوه بأنه من صنف الباحثين الذين يغالون في تحكيم العقل ويجنحون لمحاكمة النقل بكل ما يمثله هذا النقل من ثقل وما يشتمل عليه من تشريع إسلامي ومن تراث إسلامي تقرر وتشكَّل على مدى قرون متطاولة، ويذهب بعض المخالفين إلى حد اتهام محمد شحرور بالردة الفكرية وإنكار ما هو معلومٌ من الدين بالضرورة.
لا يهمني موقف المؤيدين لشحرور والمعارضين له، فلكل وجهة هو موليها وإنما يهمني التأكيد على أن هناك معيارا دقيقا وموضوعيا في الحكم على الآخرين يقوم على مبدأ ثابت وهو أنه لا يمكن معرفة الاتجاه الفكري لمفكر ما معرفة موضوعية إلا بالعودة إلى ما قاله أو كتبه وهذا أدعى للإنصاف الذي من مقتضياته ألا نبخس الناس أشياءهم أو نتقوَّل عليهم أو ننسب إليهم ما ليس من أفكارهم.
يفصح شحرور في كتابه “الدولة والمجتمع” عن اتجاهه الفكري التجديدي الرافض للإسلام التاريخي -كما يسميه- البعيد كل البعد عن إسلام الواقع، الإسلام التاريخي الذي يميزه صراع الديني والسياسي الذي بلغ أوجه في آخر أيام الإمبراطورية العثمانية وأدى إلى اختلاط التشريع الإسلامي بالاجتهاد الإنساني وتشويه صورة الإسلام، ولذلك كان التجديد –كما يزعم محمد شحرور- أمرا لا مناص منه لاستعادة صورة الإسلام الحقيقي وإعادة تشكيل الفكر الإسلامي وفق منطلقاتٍ معرفية واقعية وعقلانية، ومن هذه المنطلقات مراجعة أصول الفقه والتشريع الإسلامي، ووضع أصول جديدة تختلف عن الأطر المعرفية التي تم وضع هذه الأصول من خلالها، في القرنين الثاني والثالث من الهجرة، وعدم ربط الإسلام بالسياق التاريخي للدولة الإسلامية، وبأشخاص، والعمل على تحويله إلى مؤسسات يتجلى فيها دورُ المجتمع حتى لا يبقى هذا المجتمع مجتمعا هامشيا عديم الفعالية.
يقوم فكر شحرور على إيجاد المجتمع المدني الذي تحكمه القوانين المدنية النابعة من المجتمع والمتحررة من سلطة العقل الفقهي، ويؤخذ على شحرور زعمه أن المدنية فكرة غربية مع أن الناظر في كتب المعاهدات والأحكام السلطانية الإسلامية يمكنه أن يدرك البُعد المدني للدولة الإسلامية؛ فصلح الحديبية ووثيقة المدينة والعهدة العمرية ليست إلا تجسيدا لصيغة المجتمع المدني التي لا تتعارض من منظور الفقه السياسي الإسلامي مع التوجه الإسلامي للدولة الإسلامية.
يظهر شحرور اهتماما كبيرا بفكرة عقلنة النص الإسلامي ويرى أن الفقهاء والعلماء التراثيين لم يعيروا اهتماما للعقل وركزوا كل اهتمامهم على النقل، ويبدو أن شحرور هو ضحية بعض القراءات الخاطئة للنص الإسلامي الذي يشتمل على إشارات عقلية كثيرة، ولعله لم يطلع على قاعدة درء تناقض صحيح النقل مع صريح العقل، ولعله لم يطلع أيضا على ما قرره محمد عبده في كتابه “الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية” من أنه من القواعد التي يقوم عليها الإسلام جعله العقل طريقا لتقرير العقائد خلافا للنصرانية التي تقوم على قاعدة الإيمان بغير المعقول. ويبدو أن شحرور ومعه كثير من الحداثيين قد قاموا بإسقاط صورة الفكر الديني اليهودي والمسيحي على الفكر الإسلامي فكانت النتيجة وقوعهم في الخلط والخبط.
يتميز منهج تفسير النص الإسلامي عند محمد شحرور بنفي وتعطيل كثير من الأحكام التي استقر حولها الإجماع وهو ما يجعله واحدا من المعطلة الجدد الذين يعني التجديدُ عندهم التخلي عن التراث الفقهي الذي يعدّونه العامل الأول في الانحطاط الذي يكابده المجتمع الإسلامي.
قضى شحرور -في إطار الابتعاث الأكاديمي- مدة لا بأس بها في الاتحاد السوفييتي –سابقا- من أجل مزاولة الدراسات المتخصصة في الهندسة المدنية، وينفي شحرور أي تأثر له بالنظرية الماركسية التي يعيب عليها تكريس الرأي الأحادي والاهتمام بالجدلية التاريخية وإهمال الجدلية الإنسانية انطلاقا من المبدأ الماركسي القائم على اعتبار “الدين أفيون الشعوب”. ويرى شحرور أن الجدلية الإنسانية التي أهملتها النظرية الماركسية تقوم على جدلية الخطأ والصواب والحق والباطل والخير والشر، وهي جدلية لا يمكن أن توجد إلا في نص ديني وواقع ديني ولكنها لا تُعرف إلا وفق رؤية عقلية واقعية لحقيقة الإنسان والوجود الإنساني.
يقولون: “لكلٍّ من اسمه نصيب” ويمكن أن أقول أيضا –تجاوزا: “لكل من تخصصه نصيب”، فمحمد شحرور متخصص في الهندسة المدنية ولذلك يغلب على منهجه في التفكير والتفسير المنطق الرياضي، فقد فسر قوله تعالى: “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين” تفسيرا رياضيا فقال: إن هذه الآية تشبه معادلة رياضية فيها الثابت والمتحرك، فالثابت هو الذكر والمتحرك هو الأنثى ومن خصائص المتحرك أنه يتدرج من الواحد إلى ما لا نهاية، ويُسقط شحرور هذه المعادلة الرياضية على الآية القرآنية: “للذكر مثل حظ الأنثيين” فيقول إن القسمة الإلهية قسمة عادلة وقد كرَّست هذه القسمة المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث بالنظر إلى أن النص القرآني قد جعل المرأة هي الأساس في عملية تقسيم التركة ولذلك فما يأخذه الرجل من التركة يساوي ما تأخذه الأنثيان، فالنص القرآني يعبِّر بالمثل وليس بالضعف والمثلية تعني المساواة.
ولمحمد شحرور حسناتٌ وسيئات في تفسير القرآن الكريم، فمن حسناته قوله إن النص القرآني محكمُ النظم متعال عن الزلل ليس فيه حشوٌ وهو بهذا مخالف للنص الشعري الذي يعتريه الخلل والزلل، ومن سيئاته قوله إن “الحجاب من وضع العُرف الاجتماعي ولا يتعلق به تحليلٌ أو تحريم إلا ما أجازه أو منعه هذا العرف الذي يمثل ميثاقا اجتماعيا لا يجوز الخروج عليه”، ومن سيئاته أيضا قوله إن “صوم رمضان ركنٌ من أركان الإيمان وليس ركنا من أركان الإسلام” وهذه مخالفة صريحة للحديث: “بُني الإسلام على خمس:.. وصوم رمضان”، ومشكلة شحرور هنا نابعة من موقفه من الحديث الذي يعتبره “تجربة نبوية” وليست تشريعا دينيا.
يُؤخذ على شحرور زعمه أن المدنية فكرة غربية مع أن الناظر في كتب المعاهدات والأحكام السلطانية الإسلامية يمكنه أن يدرك البُعد المدني للدولة الإسلامية؛ فصلح الحديبية ووثيقة المدينة والعهدة العمرية ليست إلا تجسيدا لصيغة المجتمع المدني التي لا تتعارض من منظور الفقه السياسي الإسلامي مع التوجه الإسلامي للدولة الإسلامية.

مقالات ذات صلة