الرأي

فلسطين: أي دور للجزائر؟

محمد سليم قلالة
  • 10636
  • 22

تقليديا موقف الجزائر معروف من القضية الفلسطينية، بل هو الأكثر وضوحا من بين المواقف العربية: لا تدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني، ودعم غير مشروط للقضية الفلسطينية ماديا ومعنويا… ويعترف الفلسطينيون للجزائر بهذا الموقف ويصرحون به، سواء أكانوا في السلطة أم المعارضة. فهل يمكن أن تستمر الجزائر على هذا الموقف وقد حدث ما حدث من تغيرات في المنطقة العربية وفي العالم؟ وما هي احتمالات التبدل الممكنة؟ وهل لدينا إمكانية لنفاضل بينها؟

أربعة متغيرات أساسية لها تأثير بدون شك على الموقف الجزائري تبدلت في العشرين سنة الأخيرة:

ـ التحول على الصعيد الدولي وانفراد الولايات المتحدة بإدارة الصراع في الشرق الأوسط.

ـ اعتراف أكثر من دولة عربية بالكيان الإسرائيلي.

ـ ما سمي بالربيع العربي في المنطقة.

ـ وأخيرا تطور الوضع الداخلي في الجزائر وما نتج عنه من تداعيات.

٧ تحليل المتغير الأول يوصلنا إلى نتيجة تقول إن انفراد الولايات المتحدة بإدارة الصراع في الشرق الأوسط، خاصة بعد احتلالها للعراق وتوطيد أقدامها عسكريا في منطقة الخليج ببناء قواعد عسكرية ثابتة، جعلها تصوغ نظرة جديدة لدور الجزائر في ملف القضية الفلسطينية. وإدراكا منها لخلفية الموقف الجزائري التاريخية، ولصعوبة تغيير هذا الموقف، إن لم نقل استحالة ذلك، سعت إلى تحييده من خلال تمكينه من القيام بأدوار أخرى لا علاقة لها بالشرق الأوسط والقضية الفلسطينية. وهكذا أصبح من المقبول لدى الأمريكيين أن تصبح الجزائر لاعبا فاعلا في محور عمودي يبدأ منها ويصل إلى جنوب إفريقيا مرورا بنيجيريا، بدل أن تؤدي دورا في محورها الأفقي التقليدي الذي يصلها بدمشق وبغداد مرورا بليبيا واليمن. وبالفعل، لقد تم كسر هذا المحور الذي قاد المعارضة العربية لسنوات، حيث احتل العراق وتم تبديد جيشه وتحطيم قوته العسكرية نهائيا، ويجري الآن تحطيم سوريا واليمن، ولا حديث عن وجود ليبيا التي أصبحت نارا مشتعلة. وقد تحقق هذا السيناريو تماما للأمريكيين ولم يترك للجزائر أي منفذ تجاه المشرق العربي. لقد تم تحطيم كل حلفائها التقليديين. واستفادت قوى غربية أخرى من هذا، وخاصة الفرنسيين الذين يخدمهم أن يُغلق المنفذ الشرقي للجزائر ولا يبقى لها من متنفس سوى الشمال، حيث يوجدون بلا منازع، والجنوب حيث لديهم قدرة كبيرة على المناورة في إفريقيا جنوب الصحراء ولديهم أيضا حلفاء وأصدقاء مكَّنوهم الآن من نشر جيوشهم وحتى من بناء قواعد عسكرية ثابتة كما هي الحال بمالي. أي إن كلا من الأمريكيين والفرنسيين وحتى القوى الغربية الأخرى، استفادوا جميعا من هذا التوجيه الجديد للدور الجزائري. وهكذا لم يترك أمام السياسة الخارجية الجزائرية سوى بديل واحد هو أن تنظر لنفسها كفاعل إقليمي في إفريقيا، وأن تلقى كل الدعم في ذلك إذا اكتفت بذلك، بل إنه سيتم تحييد الدور المصري المنافس التقليدي لها، خاصة في شرق إفريقيا لحسابها، بل ويتم جعل المصريين غير قادرين على الحركة بدون الجزائر في إفريقيا، وهو ما بدأ يبرز في الآونة الأخيرة من خلال سعي القاهرة إلى استعادة موقعها في القارة من خلال الجزائر وليس من خلال بلد آخر.

٧ وتعزز تحييد الموقف الجزائري عن الساحة الشرق أوسطية والفلسطينية بالتحديد من خلال التأثير في المتغير الثاني القائم على دفع أكثر من بلد عربي إلى ربط علاقات سياسية أو اقتصادية ـ على الأقل ـ مع الكيان الإسرائيلي، وهو ما حدث بالنسبة إلى معظم البلدان الخليجية، فضلا عن المغرب وموريتانيا وتونس قبل سقوط بن علي، ناهيك عن مصر والأردن اللذين تربطهما علاقات دبلوماسية رسمية مع هذا الكيان. وهكذا أصبحت الجزائر وكأنها البلد الوحيد العضو في جامعة الدولة العربية الذي لم يسمح بطرح إمكانية ربط علاقات رسمية مع الكيان الإسرائيلي حتى بعد أن أصبحت السلطة الفلسطينية بقيادتها الحالية تعترف به وتربط علاقات رسمية معه. هذا الموقف الذي يُحسب لصالح وفاء الجزائر لموقفها التاريخي، كان له ثمن وهو أنه ينبغي تحييدها أكثر عن كل مبادرة أو محاولة للتسوية. وهكذا لم يعد من الممكن في ظل المتغيرات الحالية أن يتم تصور تقديم مبادرة جزائرية لوقف العدوان على غزة على غرار المبادرة المصرية أو القطرية أو حتى التركية. بل إن كل حديث عن مثل هذه المبادرة يُعد من قبيل الوهم أو اللامعقول في ظل ما سبق من مؤشرات، وهو المتغير الثاني الذي ينبغي أخذه في الاعتبار عند الحديث عن الموقف الحالي أو المستقبلي الجزائري من فلسطين.

٧ وجاء المتغير الثالث ليزيد من الضغط على موقف الجزائر من القضية الفلسطينية اليوم: الربيع العربي هو التهديد الآخر المحتمل على بلادنا إذا ما أرادت أن تتحرك خارج الخطوط الحمراء المحددة لها. لقد أصبح هذا مؤكدا بعد أن أسقط العدوان على غزة اليوم كل الأوراق وكل الشكوك التي كانت تخفي حقيقة ما عُرف بالربيع العربي. لم يكن هذا الربيع المزعوم بمنفصل عن إعادة تشكيل خارطة العالم العربي وإعادة تقسيم الأدوار به، ولم يأت العدوان على غزة الأخير بمعزل عنه، بل جاء بالتحديد في مرحلة منه  وكأنها محددة سلفا يميزها تحطيم كل الدول العربية التي كان يمكن أن تؤدي دروا في القضية الفلسطينية: العراق وسورية وليبيا واليمن وحزب الله والسودان ناهيك عن مصر التي ازدادت ضعفا على ضعف بعد ما عرفت ومازالت تعرف من اضطرابات. ولم تبق إلا الجزائر ضمن الدول العربية غير الخاضعة مباشرة للنفوذ الأمريكي التي مازال سيف الربيع العربي مرفوعا فوق رأسها يهددها في كل لحظة  ويشل حركتها تجاه أي موقف صريح يمكن أن تتخذه تجاه فلسطين. وهو ما يفسر الوضع الصعب الذي توجد فيه دبلوماسيتها ويمكننا من قراءة موضوعية لموقفها.

٧ يضاف كل هذا إلى الوضع الداخلي الذي تعرفه بلادنا، من حراك سياسي وبحث عن الشرعية واحتجاج اجتماعي صامت حول السكن والشغل وتبديد المال العام والديمقراطية وصراع الأجيال والعصب ومجموعات المصالحالخ، وهو ما لا يتسع المجال هنا لتفصيله ونحن نتحدث عن الموقف من فلسطين، كل هذا لعله يمكننا من القول إنه ليس من السهل تصور موقف مستقبلي للجزائر من هذه القضية بالوضوح الذي عهدناه في السنوات السابقة. وإذا كان ولا بد من موقف فينبغي ألا يخرج عن ثوابتها التقليدية وإلا انهار تماما. وثوابته التقليدية هي بلا شك ثلاثة: التمسك بحق الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وحق العودة للاجئين.

التمسك بقرارات الشرعية الدولية في هذا المجال.

تعزيز الموقف الشعبي الداعم لفلسطين والتعبير عنه بكل الوسائل.

وخارج هذا ليس بإمكان الجزائر اليوم أن تصوغ بطريقة جديدة موقفها، ولا أن تبادر بعناصر رؤية مستقبلية أو بدائل للصراع في الشرق الأوسط. لقد تمكنت الولايات المتحدة من أن تمتلك زمام المبادرة، ولم تبق تمنعها من ذلك سوى قوى ما دون الدولة هي حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، ولذلك فإن كل الجهد اليوم منصب على القضاء عليهما بطريقتين مختلفتين، وعلى ضوء الفشل أو النجاح في ذلك ستتبدل كل المواقف والأدوار بما فيها موقف الجزائر، وهو ما يعزز النظر إلى العدوان على غزة، ليس فقط على أنه عدوان على الفلسطينيين، بل هو جزء من مخطط يستهدفنا جميعا.   

مقالات ذات صلة