-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فلسطين.. مازلنا لم ندفع مهرك بعد

فلسطين.. مازلنا لم ندفع مهرك بعد

ما سأرويه من أحداث في هذا المقال عن فلسطين الحبيبة ليس حديثا من نسج الخيال أو خطابا إيديولوجيا يصلح لفكرة سيناريو فيلم ثوري، كما أنه ليس تأليفا أدبيا روائيا من خيال أديب أو كاتب محبّ لفلسطين، بل هو تسجيل لأحداث ووقائع حقيقية تمت بين أرض فلسطين الحبيبة والشام الجريحة منذ أكثر من سبعين عاما خلت، خطها أحد المجاهدين الجزائريين الذين قطعوا طريق الجهاد إلى فلسطين من تبسة حتى بلدة مرسى مطروح المصرية سيرا على الأقدام شهر أفريل سنة 1948م رفقة مجموعة من أصدقائه الذين لبُّوا نداء الجهاد لتحرير فلسطين.

ومختصر الأحداث أنه بعد أن وضعت الحرب اليهودية العربية أوزارها وشرَّد اليهود الغاصبون وحلفاؤهم الغربيون الحاقدون الشعبَ الفلسطيني وألقوهم في دول الجوار العربية، وبعد أن استُشهد من استُشهد من المتطوِّعين العرب، وجُرح من جُرح منهم، وهدأتْ جبهات القتال ووقّع العرب المهزومون هدنة رودس سنة 1949م مع الكيان الصهيوني المدعوم من الغرب المتغطرس، صار من اللازم على جامعة الدول العربية بقيادة الراحل المخلص (عبد الرحمن عزام) إعادة المتطوعين العرب إلى بلدانهم أو السماح ببقائهم في سورية شريطة انضمامهم إلى الجيش العربي السوري الذي استقبل من بقي من متطوعي جيش الإنقاذ العربي في صفوفه.

وعلى إثرها عاد أصدقاء والدي إلى الجزائر يحملون وثيقة ممضية من قبل الأمين العام لجامعة الدول العربية تشهد على مشاركتهم في الجهاد بفلسطين، فعاد أصدقاؤه التبسيون المقرَّبون إلى تبسة سنة 1949م وكان السجن الاستعماري في انتظارهم، إذْ قضوا فيه سنتين كاملتين حتى تم الإفراجُ عنهم.. وهم: (قصري الصادق المدعو: عبد الحفيظ ت 2007م) قائد المجموعة و(صالح مناح ت 1979م) وعاد صديقه البليدي (محمد بن قربان ت 1958م) الذي كان مصيره السجن والبطالة.. وما إن اشتعل أوار ثورة التحرير حتى التحق بها مجاهدا واستشهد سنة 1958م رحمه الله، وفي البليدة شارع باسمه اليوم.

وبقي من أصدقاء والدي من بقي، ومنهم المجاهد الكبير (عيسى الرملي المسيلي ت 1993م) من بلدة سيدي عيسى بولاية المسيلة، وبقي والدي معه وانضمّا إلى الجيش العربي السوري في وحدات القتال المرابطة على الحدود مع الكيان الصهيوني على خطوط الهدنة، وتزوَّجا هناك، ولقصة زواجهما حيثيات وتفاصيل مهمة جدا أحببتُ أن يطلع عليها القرّاء الجزائريون المحبُّون لفلسطين، لأنها تختصر عمق التلاحم والأخوّة والترابط بين الشعوب العربية والإسلامية من جهة، كما أنها تكشف عن أصالة ومعادن الرجال في ذلك الزمن العصيب.

ولوداع المجاهدين، فقد أقام سكان حي المغاربة بوسط دمشق وفي (خان المغاربة) بحي (السويقة العتيق) حيث تقيم الجالية المغاربية هناك حفلَ توديع ووداع لأولئك الأبطال، وحفل استقبال واحتضان لمن بقي منهم، وترأس الحفل شيخُ ومختار حيّ المغاربة الشيخ (محمود باشا التبسي ت 1978م) والشيخ (ربيع براح الحلاق التبسي ت 1983م)، وبعد أن عاد الرفاق ظل والدي وصديقه يترددان على حي المغاربة نهاية كل أسبوع للراحة ومقابلة الجزائريين المقيمين هناك ولسماع الأخبار الجديدة عن الوطن، وبعد مدة من التردُّد فاتح مختارُ المغاربة الشيخ (محمود باشا) والدي وصديقه عيس الرملي بوضعهما الاجتماعي غير اللائق في الحي، وضرورة التفكير في الزواج لأن الأعراف والتقاليد الاجتماعية كانت تقضي يومها أن لا يظل الرجل عازبا مادام قد بلغ سن الزواج، ففرح والدي وصديقُه عيسى بالخبر، ولكن فرحتهما اعترضتها قلة ذات اليد، إذ كانا يتقاضيان مرتبا يعادل مائة ليرة سورية بحكم كونهما جنودا أمِّيين، وهذه المائة ليرة لا تكفي إلاّ كمصروف جيب يومي لجندي يشتري به السجائر والقهوة والشاي وبعض المستلزمات والأدوية. أما لبناء أسرة فلا حيلة بذاك الأجر الزهيد.

اشتكى والدي وصديقه عيسى الرملي أمرهما للمختار، فطمأنهما بترك الأمور المادية الأخرى عليه وعلى أهل الحارة. وسألهما إن كان قد وقع اختيارُهما على أسرة أو فتاة أو نحو ذلك، فأخبراه بأنهما في وضع لا يؤهِّلهما للتفكير في الموضوع، وما كان منه إلا أن وعدهما خيرا وبأنه سيتدبّر الأمر. وبالفعل فقد قام المختار باتصالاته مع الأسر الساكنة في الحي بخصوص البحث عن فتاة ترضى بالزواج من مجاهدين جزائريين غريبين معدمين فقيرين، وما هي إلاّ بضعة أشهر حتى وقف على من ترضيان بالزواج من هذين المجاهدين الغريبين، وتزوج صديق والدي عيسى بفتاة دمشقية كانت صديقة والدتي وأنجب منها ولدين ذكرين، وبعد الاستقلال عاد إلى الجزائر واستقر بمسقط رأسه بسيدي عيسى ومعه زوجته وأبناؤه، وقد زار والدي بصحبتنا صديقه سنة 1967م بسيدي عيسى ووجدت والدتي صديقتها قد التحقت بالرفيق الأعلى بعد مرض مفاجئ ألمّ بها، وترحّمنا عليها يومها. وقبرُها شاهد على تلاحم الشعبين العربيين الجزائري والفلسطيني.

لم يكن لدى والدي مهرٌ يدفعه للزواج، والعرف يقضي في بلاد الشام أن يُقسَّم المهر إلى قسمين، مقدّم ومؤخّر، ولكن والدي كان لا يملك لا مقدما ولا مؤخرا، ولكن جدي لأمّي الراحل الرجل الشهم الهمام (محمد حامد حسن المصري 1906-1984م) خاطبه قائلا: (إن لم يكن عندك مهر فمهرك الجهاد في سبيل الله) وقال جدي لأمّي أمام المختار والحضور ممن شكّلوا أهلا لوالدي: (زوّجناك ومهرُك الجهاد في فلسطين).

أما والدي فقد وجدوا له فتاة مثقفة ومتعلمة تدرس في المرحلة الثانوية بثانوية (الألينس) بحي البحصة بالقرب من ساحة المرجة بوسط دمشق، تطوّعتْ للزواج به مهما كانت الظروف والأحوال، ولم يكن لديه مهرٌ يدفعه للزواج، والعرف يقضي في بلاد الشام أن يُقسَّم المهر إلى قسمين، مقدّم ومؤخّر، ولكن والدي كان لا يملك لا مقدما ولا مؤخرا، ولكن جدي لأمّي الراحل الرجل الشهم الهمام (محمد حامد حسن المصري 1906-1984م) خاطبه قائلا: (إن لم يكن عندك مهر فمهرك الجهاد في سبيل الله) وقال جدي لأمي أمام المختار والحضور ممن شكلوا أهلا لوالدي: (زوّجناك ومهرك الجهاد في فلسطين)، وبكى الحضورُ يومها وذرفوا الدموع، وما هي إلاّ أشهر حتى قامت الثورة التحريرية سنة 1954م، وندم والدي على زواجه وقرّر العودة للجزائر للمشاركة في جهاد الكفار ولكن الله شاء أن يُعتمد من ضمن أحد معاوني وممثلي جبهة التحرير في سورية لمّا حضر الراحل عبد الحميد مهري ممثلا لجبهة التحرير بسوريا، وبقي والدي بسورية هناك لا يشتكي نقصا ولا فاقة ولا حاجة.. لأن جدي كان أهلا للجهاد وقلبه محروق على بلده فلسطين التي أخرجه اليهودُ منها، وبقي والدي إلى غاية الاستقلال ثمّ عاد بنا وانضم إلى صفوف الجيش الوطني الشعبي، وظلت العلاقة الزوجية الحميمية الطاهرة يحكمها مهر الجهاد بفلسطين المبارك.

وكان لوالدتي –بحكم تعلمها وثقافتها العربية والإنجليزية- الدور الكبير في توجيه ونصح والدي نحو الخير وأذكر عشية انقلاب 19/06/1965م عندما وقف والدي قائدا لكتيبة مدرعات (B T R) بالحي العسكري سيدي مبروك بقسنطينة يخبر والدتي بخبر خطير ويطلب منها أن تحافظ علينا ريثما يعود سالما، فودَّعَته وداع الأبطال دون أن تذرف  عليه دمعة واحدة مُباركةً. وصادف سنة 1967م أن زارنا مجموعة من الضباط في البيت يطلبون من والدي الخروج معهم في الانقلاب على الراحل بومدين، فما كان من والدتي إلاّ أن خالفت العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية وخاطبتهم من خلف الستار قائلة لهم بقوة: ((ارحلوا فقد أعطى كلمة العهد لبومدين ولن يخونه أبدا، فارحلوا عن بيتي))..  وحدث إثرها شجارٌ بينهما، ولكن لما فشل الانقلابيون سنة 1968م بالعفرون جاءها معتذرا ومسلّما يحمل في يده هدية عن مهر فلسطين غير المدفوع.. وجال وساح بها وبنا الجزائر كلها.

ولأنّ نواميس الله تأبى الظلم، وتقضي بالعدل، ولأن القاعدة الأصولية تقضي حسب الإمام الكاساني في كتابه (بدائع الصنائع) بقاعدة (بدائل النقص.. ومفادها: أن الله يسلبك القوة ولكنه يمنحك مقابلها الحكمة.. ويسلبك النعمة ولكن يمنحك مقابلها العفة والصبر والتحمل.. وهكذا) فقد رحل الوالد يوم الأربعاء 09/ذوالحجة الحرام/1410هـ الموافق 15/03/2000م عن عمر ناهز الثالثة والسبعين ودُفن بأحب البلاد إليه تبسه الحبيبة حيث موطن ذكرياته وأجداده، تاركا لها منزلا كبيرا، وراتبا كبيرا تعتاش به، ومازالت والدتي حفظها الله إلى حد كتابة هذه السطور تقول: ((هذا مهري المقدم والمؤخر قبضته في الدنيا، وأجري الأعظم ومهري الكبير عند الله في جنته، راجية أن تتحرر فلسطين وأعود إلى بلدتي طبريا التي طردني منها اليهود الغاصبون وخرجتُ منها حزينة مقهورة على بيتنا الجديد شهر أفريل سنة 1948م)).

ولعلني أختم هذه الرواية التاريخية بمأثور من أقوال السلف الصالح، فقد سأل مولى المبارك خادمه وكانت عنده ابنة جميلة، قائلا: ((.. يا مبارك من ترى نزوِّج هذه البنت؟ فقال: “الجاهلية كانوا يزوِّجون للحسب والنسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدين” فأعجبه عقله فزوَّجها إياه))، ونضيف نحن قائلين: ولماذا يزوِّج الفلسطينيون؟ نقول: يزوِّج الفلسطينيون الجزائريين للجهاد في سبيل الله، فهل بالفعل دفعنا مهرك يا فلسطين؟ أعتقد لا حتى نحررك من قبضة اليهود الغاصبين. أللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!