فلسطين وقصة الخيانة المتجددة(2)
لم تأبه إسرائيل بالمبادرة العربية، ولم تلتزم ببنود اتفاقية أوسلو، وأصبح فشل المبادرات التفاوضية حجة قوية لدعم الحركات المُقاومة في أوساط الشعوب العربية، وعرف الاتجاه المقاوم تصاعدا كبيرا على أرض فلسطين، غير أن التزامات التنسيق الأمني التي فرضتها اتفاقيات أوسلو، والتي أعطتها الولايات الأمريكية المتحدة الأولوية القصوى، وأقامت لها جهازا أمنيا بقيادة الجنرال كيث دايتون كانت هي بؤرة التوتر ومصنع العداوة بين السلطة الفلسطينية من جهة وحركة حماس وحركات المقاومة الأخرى من جهة أخرى، كان دور الجنرال دايتون الذي جاء لفلسطين في 2005 بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة هو تطوير التنسيق الأمني وإنجاحه بإنهاء مهام الجيل القديم في الأجهزة الأمنية الفلسطينية الذي يوجد فيه كثير ممن قاتل الإسرائيليين من قبل واستبدالهم بجيل من الشباب في العشرينيات من أعمارهم دُربوا على قبول إسرائيل وملاحقة قوى المقاومة تحت ذريعة المحافظة على الأمن، كان الهدف من التنسيق الأمني بالنسبة للصهاينة هو أن يقوم الفلسطينيون في المنظمة والسلطة الفلسطينية بضمان حماية الأمن الإسرائيلي، وطمع الفلسطينيون في السلطة أن يحققوا نتائج سياسية لتثبيت وجودهم على الأرض مقابل ملاحقة المقاومين، مكن هذا التنسيق من اختراق المنظومة الفلسطينية المُفاوِضة ذاتِها، حيث تمكزت شبكاتٌ مُمَكَّنةٌ عميلةٌ عمالة مباشرة للإسرائيليين والأمريكان في مختلف المؤسسات الأمنية الفلسطينية، وأصبحت تمثل خطرا حقيقيا على ياسر عرفات نفسه أدّت إلى تسميمه واستشهاده في أكتوبر 2004.
استطاع التنسيق الأمني أن يوجع المقاومة في الضفة الغربية وأن يضعف أداءها، ولكنه عجز عن ذلك في قطاع غزة، مما اضطر الكيان الصهيوني إلى الانسحاب منها مدحورا في صيف 2005 ، وحينما قررت حركة حماس حماية نفسها من التنسيق الأمني بالمشاركة في الانتخابات التشريعية في 25 جانفي 2006 فوجئت هي ذاتها، وفوجئ العالم بأسره بشعبية عارمة في كل الأراضي الفلسطينية بينت رفض الشعب الفلسطيني لمسار الاستسلام التفاوضي وحققت لخيار المقاومة أغلبية ساحقة في المجلس التشريعي ألقت على عاتق حماس مسؤوليات كبيرة ضمن أجواء مليئة بالخيانات المتكررة، لم تتوصل حركة حماس إلى اتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية مع حركة فتح ومن خلفها منظمة التحرير الفلسطينية برمتها، واشتد عليها التنسيق الأمني، وخصوصا على ذراعها العسكري وكل الأجنحة العسكرية للنضال الفلسطيني.
أصبح العنوان الجديد للتآمر بعد تشكيل حكومة هنية في غزة هو الانفلات الأمني الذي كان بطله محمد دحلان وشيعته، أدى تفاقم الوضع في غزة إلى اختيار حماس ما أسمته بـ“الحسم العسكري” الذي سيطرت بواسطته بسهولة على قطاع غزة، ومن ذلك الحين دخلت القضية الفلسطينية مرحلة جديدة تمثلت في تحول الانقسام من انقسام فصائلي إلى انقسام جغرافي، بسطت حماس سيطرتها على غزة، وهيمنت فتح باسم السلطة والمنظمة على الضفة الغربية، أضعف هذا الانقسام القضية الفلسطينية في المحافل الدولية ولدى كثير من الأنظمة العربية الرسمية وكثير من النخب، غير أن المقاومة في غزة استفادت بشكل تصاعدي من التعاطف الجماهيري في البلاد العربية والإسلامية والعالم بأسره بتصاعد إنجازاتها في مواجهة الاحتلال الصهيوني عند كل عدوان من سنة 2008، إلى سنة 2012، إلى سنة 2014. وقد ظهر هذا التعاطف جليا في حملات كسر الحصار التي كان أبرزها أسطول الحرية، والتحاق الكثير من المثقفين والمنظمات المدنية والحقوقية في العالم بالدفاع عن الفلسطينيين في غزة وملاحقة القيادات الصهيونية في المحاكم الدولية، كما تمكنت المقاومة في غزة من تطوير قدراتها العسكرية من خلال تخلصها من شبكات الخيانة والعمالة وما يتصل بالتنسيق الأمني ومن خلال الدعم المتنوع الذي أصبح يصلها بسخاء فقلبت المعادلة كلية، وأنهت كل المخاطر التي أوشكت أن تصفي القضية الفلسطينية، وخصوصا ما يتعلق بصناعة القابلية للاستسلام للقوة الإسرائلية الجبارة التي لا قبل للعرب والمسلمين بها (!)، وما يتعلق بتوسع رياح التطبيع ونزوع أغلب الحكومات الرسمية لتغيير سياساتها تجاه الكيان الصهيوني، لقد أصبحت المقاومة في غزة تشكل خطرا، لا على إسرائيل وحدها بل على المشروع الغربي الإستعماري برمته وحلفائه في منظومة الحكم العربية الفاسدة المتسلطة على الشعوب مما تطلب الأمر بعث خطط جديدة للخيانة.
منذ أن نجحت حركة حماس في الانتخابات التشريعية ضمن رياح الصعود السياسي للحركات الإسلامية لم تصبح قضية فلسطين قضية قومية بالنسبة لأغلب حكام العرب، لقد أصبحت تمثل لهم امتدادا للصراعات السياسية القائمة في بلدانهم مع التيار الإسلامي، وأصبحت تجربة حكومة غزة بعد الحسم نموذجا لا يجب أن ينجح والتقت مواقفهم تلك مع الإرادة الغربية المساندة لإسرائيل، وأصبح الحصار هو الأداة المثلى لهؤلاء وهؤلاء لحمل الفلسطينين الغزاويين على الثورة على حكومة هنية وحركة حماس والمقاومة، غير أن ذلك لم ينجح وبقي الثبات والصمود هو السمة الأبرز والأعم لدى أولئك السكان الفلسطينيين المظلومين. حين فشل الحصار حاول الإسرائليون حسم المشكلة عسكريا فشنوا على غزة ثلاثة حروب دموية منذ قيام حكومة هنية، فرسمت هذه الحروب معالم تطورات كبيرة في العلاقة بين القضية الفلسطينية والحكام العرب ومسلسل الخيانات المتجددة.
في سنة 2008 أعلنت الصهيونية تسيبي ليفني بداية العدوان من القاهرة تحت مسمى معركة “الرصاص المصبوب“، وكان مبارك ونظامه وأشياعه يتوقعون انتصارا حتميا سريعا لحلفائهم الإسرائيليين وسَحقا مفنيا لحماس وقوى المقاومة فجهزوا أنفسهم لاستلام غزة وتسليمها للسلطة الفلسطينية بعد ذلك، كانت المفاجأة كبيرة، فشلت الآلة العسكرية الصهيونية في حسم المعركة وارتسمت أمامها معالم هزيمة أخرى، بعد تلك التي لحقتها في جنوب لبنان سنة 2006 في مواجهة حزب الله، لقد استطاعت المقاومة في هذه المعركة التي سمتها “معركة الفرقان” أن تحقق ما لم تحققه الجيوش العربية مجتمعة، استطاعت أن تطلق على الإسرائيليين 980 صاروخ وأن تقتل 48 جنديا إسرائيليا وأن تدخل الإسرائيليين في مدنهم في هلع غير مسبوق، ومن النتائج السياسية التي أضرت كثيرا بالإسرائيليين تحرك الرأي العام الدولي لصالح غزة، وتحرك سكان الضفة الغربية الذي كان له دلالات خطيرة في حسابات الصهاينة والأمريكان رغم احتشامه في تلك المرحلة، وبروز قطب عربي إسلامي حكومي متعاطف مع غزة استطاع أن يجتمع في الدوحة في ما سمي بـ“قمة غزة” حضرتها دول عربية من خارج“معسكر الاعتدال” وكانت مسنودة من إيران المتحالفة مع المقاومة آنذاك، ومن تركيا أردوغان كبعد سياسي دولي إسلامي جديد يدخل المعادلة لصالح فلسطين، اضطر الصهاينة أمام هزيمتهم العسكرية والسياسية أن يوقفوا عدوانهم دون تحقيق أهدافهم المتمثلة في وقف إطلاق الصواريخ، ولكن بعد اقتراف جريمة مروعة في حق الفلسطينيين إذ استشهد في العدوان 1310 وجرح 5500 من بينهم 926 مدني و412 طفل و111 امرأة ووصلت الخسائر المادية إلى حدود 1.9 مليار دولار، تتحمل الخيانة المصرية الرسمية مسؤولية كبيرة في هذا الجرم العظيم، كما أن أغلب الأنظمة العربية آنذاك كانت شريكة في الجريمة فقد رفضت “أنظمة الاعتدال العربي” وفق التصنيف الأمريكي عقد اجتماع الجامعة العربية لكي لا يزعجوا إسرائيل، وهي تقوم بمهمة إجرامية يتمنون نجاحها، وحتى السلطة الفلسطينية خذلت المقاومة في عدوان 2008 حيث حملت حماس والمقاومة مسؤولية الخسائر الفلسطينية.
تغيرت المعطيات كلية في العدوان الصهيوني الذي أطلقته على غزة في 14 نوفمبر 2012 تحت اسم“عمود السحاب” بقتل القائد أحمد الجعبري، لقد وجد الغزاويون هذه المرة سندا قويا من مصر ثورة 25 يناير، حيث أظهر الرئيس محمد مرسي دعمه المباشر والعلني للفلسطينيين فضغط على المخابرات المصرية المتلكئة، ووجه وفدا كبيرا باسم الجامعة العربية من وزراء الخارجية العرب، وأرسل رئيس حكومته هشام قنديل بوفد وزاري كبير للاطلاع على احتياجات أهل غزة، كان التحرك الشعبي الفلسطيني هذه المرة في الضفة الغربية أكثر قوة، وكانت الشعوب العربية ضمن رياح الثورات العربية أكثر حضورا، وحكومات “الاعتدال العربي” التي لم تصبها الثورات في تقوقع وسكون وترقب، كما استطاعت المقاومة أن تطور أداءها وأن تحقق إنجازات عسكرية مهمة، حيث أطلقت 2500 صاروخ وقذيفة سمت بها المعركة “معركة حجارة السجيل“، أدت كل هذه المعطيات الجديدة إلى انتهاء المعركة في 8 أيام فقط، خسرت فيها إسرائيل 20 قتيلا منهم 11 جنديا و625 جريح وأصاب سكانها هلع أعظم من الذي سبقه دون أن يحققوا شيئا من أهدافهم، لم تكن خسائر الفلسطيين كبيرة قياسا بالمعركة الفائتة، حيث قتل منهم 155 شهيد، منهم أكثر من 27 طفلا و14 امرأة 8 شيوخ مسنين، وانتهت المعركة بمفاوضات كان الطرف المصري فيها إلى جانب الفلسطينيين، وكانت السلطة الفلسطينية إلى جانب المقاومة، انتهت بانتصار سياسي معتبر تمثل في تعهد الإسرائيلين (وكذلك المقاومة) بوقف الهجمات المسلحة المتبادلة، مع تعهد الاحتلال بعدم دخول أراضي قطاع غزة أو تنفيذ عمليات الاغتيال، وتم إلغاء المنطقة العازلة التي أنشأها الاحتلال على طول حدود القطاع وحرمت أهل غزة من أراضيهم، ووافق الاحتلال على البدء بالرفع التدريجي للحصار عن قطاع غزة والسماح للصيادين بالوصول إلى مسافة 9 أميال بحرية.
بعد نجاح الثورة المضادة في مصر المسنودة من السعودية والإمارات في الإطاحة بالرئيس محمد مرسي واتهامه بالتخابر مع حركة حماس، جاء العدوان الإسرائيلي سنة 2014 ضمن منطق جديد في مسلسل الخيانة المتجددة لم يسبق له مثيل سنتحدث عن تفاصيله في المقال المقبل بحول الله…. يتبع..