-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في وداع المناضل محمود خذري

لمباركية نوّار
  • 1013
  • 0
في وداع المناضل محمود خذري

كيف تكون الصورة مغايرة، ويكون الحال على خلاف ما ذكرت لماحة، مشرقة، مزهوة، ونحن نقف في ظل صدمة مفجعة ساقت إلينا صمتا رهيبا يسوده قلق وحزن، نقف لنودع أخا عزيزا غدر به داء الكفاد بفيروسه الماكر اللعين، ولم يمهله طويلا. وهو الأستاذ والمحامي والمناضل والوزير محمود خذري، رحمه الله.

كان فقيدنا في مراحل تعلمه عصاميا طموحا لا يتوقف عن الاستزادة في الكسب والأخذ. وكان في النضال الحزبي إماما متوجا يتقدم الصفوف، وكان في خدمة الوطن يدا لا تعرف الملل ولا تميل إلى الانقباض والاسترخاء، وكان في الدفاع عن الحق صوتا مكافحا شرسا لا ينصرف إلى البكم والسكوت. وكان جنديا ملتزما في حزبه جبهة التحرير الوطني، رائد الأحزاب الجزائرية، في كل الأوقات، ومناضلا متأهبا على الدوام للمنافحة عنه، لا يعرف التراجع أو الخذلان. وكان في علاقاته بإخوانه الشرفاء صادقا وفيا يرفض الجحود أو الدوران والنكران.

هكذا عبَر المناضل المثقف الراحل محمود خذري القادم من قلب الأوراس طريق حياته، وعلى هذا المنوال الجميل عاش. وحتى عندما ارتقى في المناصب، ظل قريبا من نمط حياته التي عرفها في منابته الأولى، محافظا على بساطته، وممسكا بتلابيب عفويته وقرويته، محتضنا تقاليد وعادات مجتمعه، ولم يدر لها ظهره. واستمر طول حياته ابن فلاح قلبا وقالبا أحب الأرض التي ولد وترعرع فيها، أرض تفلفال إحدى قلاع الجهاد الأعظم في الأوراس، وموطن سواقي المياه الرقراقة والخيرات والآلاء والبركات، ومرابع الأُنس والكرم والجود.

من تعرف إلى الفقيد الأخ المناضل الكبير محمود خذري يقف على جسارته التي إن ركبها لا يتوقف عن الكر والهجوم في إباء ورجولة، ولا يستسلم، ولا يرضى بأنصاف الحلول. ويكتشف صلابته التي اشتقها من وعورة جلاميد جبال الأوراس الأشم التي لا تتزعزع أمام الصعاب، ولا ترتعش في مواجهة الصروف، ولا تنهد إن ارتطمت بها رياح الخطوب.

عاش الأخ محمود عنيدا وذا بأس متى وجد أمامه من هو أصلب منه، وأقوى شكيمة وأطول نفسا؛ لأنه امتلك قلبا قويا، لا يرضى بالهزيمة ولا يستسيغ النقيصة والدنية، ولا يقبل الانكسار. لقد كان مثالا في هذا الجانب يستحق أن تسدى له التحايا الشريفة خاصة  لما يتعلق الأمر بحزبه جبهة التحرير الوطني وبمقومات وطنه. وله في ذلك مواقف جريئة مشهودة وشاهدة.

خمسون سنة ونيّف قضاها هذا المناضل الصلب في حزبه لم يغير الوجهة، ولم يبدل طريق السير، ولم يحوّل إتجاه البوصلة، ولم يتحوّر تحت مسوّغ التأقلم مع الظروف كلما جد فيها جديد؛ لأنه كان مناضلا صاحب قناعات قارة، مخلصا لمبادئه، وفيا لعهوده، مؤمنا بقداسة مبايعته. لقد كان رجل وعد موثق وموثوق يدرك أن العهد كان مسؤولا… خمسون سنة ونيّف أمضاها هذا المناضل الفذ صامدا ومتماسكا وواقفا كشجرة السرو، وهمه عزّ وسؤدد حزبه الذي يرى فيه ازدهار وارتقاء وطنه. خمسون سنة ونيّف طواها هذا المناضل الثابت، الصنديد، المرعب في المنازلات وهو يردد بصوت جهوري كالأسد المزمجر: جبهة التحرير أعطيناك عهدا… خمسون سنة ونيّف ومحمود يتنفس ريح وحب جبهة التحرير الوطني بملء رئتيه، ولم يخر حتى نفدت آخر قطيرات الأكسجين فيهما. فهل كان محمود قيسا وليلاه هي جبهة التحرير الوطني؟.

عندما دارت الزوابع المفتعلة على حزب جبهة التحرير الوطني، وبدأ حلقة التضييق تشتد وتحتد، شاور سيد الرجال الأستاذ عبد الحميد مهري الأستاذ محمود خذري وبعض إخوانه في تسعينيات القرن الماضي لعقد دورة للجنة المركزية للحزب بباتنة العرين. فكان منهم حسن القبول والرضى بالاحتضان. وانعقدت الدورة في أكمل الظروف التنظيمية بفضل تجند فقيدنا ومن معه من المخلصين، وخرجت بعض الأصوات النشاز تصيح قائلة: “جبهة التحرير تلوذ بالجبال”. فرد عليهم الأستاذ عبد الحميد مهري بمقالة هي بمثابة مرافعة رفيعة ومنيعة عنوانها: “وهل يسأل أهل مكة لما يحجون إلى مكة؟”. وكانت هذه المقالة كمن ألقمهم حجرا أفحم مخاصمتهم… وهكذا، وقف مناضلو ولاية باتنة إلى جانب حزبهم العتيد في عز وفخر وشموخ.

في آخر مكالمة هاتفية جمعتنا قبل سريان الانتخابات الأخيرة، أباح لي عن امتعاضه واغتياظه وتوجعه مما يدور في قمة كيان حزبه. ومثلما مات اللغوي سيبويه وفي قلبه شيء من حتى، فقد مات الأخ محمود خذري وفي عقله ووجدانه وفكره أشياء عن حزبه جبهة التحرير الوطني.

تنتمي عائلة الفقيد محمود خذري إلى طبقة الفلاحين الجبليين كأغلب عائلات الأوراس. وعاشت الحرمان والضنك في فترة الاستعمار، وتخبطت في غياهب الجهل والفقر. وقد ولد في كنفها سنة 1948م. ولما بلغ سن السادسة التحق بالمسجد لحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ اللغة العربية، وجلس متعلما بين يدي الشيخ محمد أعقون عمّاري أولا، ثم في حلقة خاله الكفيف الشيخ الطيب خذري. وبعذئذ زاوج في حرص وتحفز بين التعليم القرآني والتعليم المدرسي النظامي لعدة سنوات. وبعد مجيء الاستقلال، ارتحل مع ثلة من أبناء قريته إلى مدينة قسنطينة، وزاول دراسته في معهدها الإسلامي حتى نال شهادة الأهلية في سنة 1966م. ونظرا للحاجة الملحة، التحق بالتعليم مدرسا في المرحلة الابتدائية في عدة مدارس بولاية قسنطينة. وما أن فتحت جامعة قسنطينة في سنة 1972م أبوابها، حتى انضم إليها منتسبا، واستطاع بمثابرته أن يتحصل على شهادة الليسانس في الحقوق. واشتغل بعدئذ قاضيا في أريس، ثم محاميا في عاصمة الزيبان بسكرة. ومع مرور السنوات، أصبح نائبا في المجلس الشعبي الوطني ثم تولى أمانة محافظة باتنة لحزب جبهة التحرير الوطني. وفي مطلع القرن الجاري، ارتقى سلم المسؤوليات، وأصبح وزيرا للعلامات مع البرلمان ثم وزيرا للصناعة.

عذرا الأخ محمود، لم نستطع أن نكيل لك التأبين بمكيال الإطالة حتى نوفك حقك جاهزا كاملا؛ لأن قهر الظروف واضطرارها فرض علينا أن نوجز ونختصر، وأن نجمع ولا نفصل.. هكذا كان حظك معنا.

رحمك الله أخانا العزيز سي محمود، ورزقك موئلا مريحا في الجنة، وأبقى الله ذكراك وثابة، حية، مصونة، حاضرة، خفاقة أبد الدهر…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!