-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قذفٌ سياسي على مستوى رئاسي

عمار يزلي
  • 515
  • 0
قذفٌ سياسي على مستوى رئاسي

منذ جنون العظمة الأكبر الذي فجَّر الحرب العالمية الثانية، بدأ العالم يتجه بعدها إلى “التعقُّل” قليلا، لكن ليس إلى درجة “الإنسانية”: فنزعة التوحُّش لم تنعدم كليا في المجتمعات والكيانات السياسية “المتحضِّرة”، وبقي التسابق نحو القوة والتسلح والهيمنة، سمة المجتمع “المتحضر”، إنما حاول أن يبدّل من أدواته ولغته، لكن الجوهر بقي موجودا، ليس منقرضا، بل “كامنا”، سرعان ما تفجّر عشية الاحتلال الصهيوني ونكبة سنة 1948، ثلاث سنوات بعد نهاية الحرب المجنونة العظمى. هذه الحرب التي لم ولن تنتهي قريبا وما زالت إلى اليوم مشتعلة رغم السنين السبعين؛ إذ إنه بعد تكريس الاحتلال، جاء العدوان الثلاثي على مصر 8 سنوات في ما بعد 1956: جنون غير مسبوق لم يوقفه إلا جنونٌ مضاد من طرف خروتشوف وقتها، الذي ضرب بحذائه على طاولة الأمم المتحدة وهدَّد بضرب عواصم دول العدوان على مصر: الكيان الصهيوني وفرنسا وبريطانيا، ثم تلتها هزيمة حرب الأيام الستة العربية الصهيونية سنة 1967 ثم حرب أكتوبر 1973.

غير أن الجنون لم يبق في حدود المنطقة، فقد جُنَّ جنون الدول العظمى المنتشية بالنصر على النازية، وراحت القوّة الصاعدة تبحث عن دور أعظم يمكِّنها من تطويع العالم ولاسيما حركات التحرُّر الوطنية التي كان يشجّعها ويغذيها المعسكر الشيوعي الاشتراكي، كانت حروبا استقلالية ضد الهيمنة والاحتلال الغربي، وتمكنت معظم الدول من افتكاك استقلالها تحت لواء “حق تقرير المصير”، كلها تقريبا إلا قليلا: فلسطين، ثم الصحراء الغربية منذ 1974.

اليوم، نتّجه نحو أزمات أخرى إن لم نكن في صلبها: العالم الماسك بلجام الدول الأخرى المقيدة، أو تلك التي اختار زعماؤها رهبة لا رغبة أو رغبة منهم في الافتتان بالنموذج الغربي ولاسيما الأمريكي بعد انهيار المعسكر الشيوعي قبل نحو 30 سنة، بدأ يشعر بأنه يكاد يمسك بزمام الأحصنة الجامحة في كل القارات، ولم تنفع مع شعوب وأنظمة هذه العالم لا تخويف ولا تطويع ولا تجويع ولا حصار ولا عقوبات ولا حتى حروب انقلابية مدمِّرة كما حصل في العراق وأفغانستان وليبيا واليمن وسورية ولبنان.. ويحصل اليوم في إفريقيا، ومحاولتهم مع الجزائر قبل ثلاثة عقود.

نحن نعيش شيخوخة عالم الأقوياء الأوصياء، الشيخوخة التي تعني بداية العجز والاضطراب الهيكلي والعقلي، وتنفلت الأمورُ السياسية، عبر تغيير لغة التعامل والتخاطب الإعلامي وأكثر من ذلك لغة الدبلوماسية: حالة من جنون فكري آخر، لم يسبق له مثيل، وهذا يدلُّ على أننا على مستوى عالٍ من التيه الأخلاقي والفكري وضياع البوصلة العقلية التي تشي بأن “جنون العظمة” قد تحوّل إلى جنون عظيم، عقلي وعصبي وعملي: جيل شاخ وهرم على الهيمنة والسيطرة ولا يريد أن يتخلى عن مجده التاريخي الذي بناء خلال عقود وأجيال.

لم نسمع يوما لغة سياسية على ألسنة رؤساء عالم اليوم، أكثر حدَّة وتجريحا وقذفا في حق زعماء آخرين من المفروض أنهم نظراؤهم، هذا في وقت لا توجد حروبٌ مباشرة بين هذه الدول: بدأ هذا التوجه مع ترامب بإهانته المباشرة لكثير من الزعماء في العالم.. إلا الأقوياء منهم وبالأخص بوتين، حتى عندما تطاول على زعيم كوريا الشمالية، إنما كان الهدف منه طلب صداقته ومودَّته كونه لا يؤمن إلا بالمال ثم السلاح، لكن حالة ترمب ورثها أيضا بايدن، عندما وسم الرئيس الصيني بالدكتاتور ثم الرئيس بوتين بـ”المجنون”. هذا فيما تشتعل لغة القذف السياسية تباعا على مستوى عالمي عال ورئاسي غير مسبوق، مما يعني انحراف البوصلة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!