-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قراءة في مذكرات الأستاذ بشير خلف

قراءة في مذكرات الأستاذ بشير خلف

من أروع اللفتات الأدبية واللطائف الفكرية والمتع والأريحيات الأسلوبية التي أخذت بمجامعي النفسية والفكرية والعاطفية والروحية والأدبية والجمالية وأنا أقرأ مذكرات الأديب الكاتب الأستاذ المفتش البشير خلف يحفظه الله ويرعاه المعنونة بـ(حياتي في دائرة الضوء) صدقه وتلقائيته ومباشرته واعترافاته وتنديداته واحتجاجاته ومتاعة وروعة أسلوبه السردي الشيق.. وليست هذه التحف والروائع والصور التذكارية المتميزة التي سجّلتُها بتلقائية وصدق، إلاّ بعضٌ يسير من أسرار ولطائف ومكنزات هذه المذكرات التاريخية والسياسية والثقافية والفكرية والأدبية والتربوية والتعليمية والأخلاقية والدينية التي ترصَّعت بها هذه المذكرات التي تألف عقد جمانها من أربعمائة وثمانين (480) صفحة الصادرة عن دار سامي للطباعة والنشر بمدينة وادي سوف العريقة بعلمائها وفقهائها ورجالها وأعلامها ومصلحيها ودعاتها وأبطالها وكتّابها وشعرائها ومفكريها ومؤرّخيها.. سنة 1442هـ 2021م.

في اعتقادي بعد قراءتي لأكثر من ثلاثمائة سيرة ذاتية في حياتي الفكرية أن الأستاذ بشير خلف استطاع أن يترك لنفسه ذِكرا ما بقي هذا الكتاب، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ولم يكن لي سابق معرفة بالأستاذ بشير خلف إلاّ سنة 2004م عندما أشار عليه بعض طلبة وادي سوف الذين كانوا يدرسون عندي في جامعة باتنة أن يستضيفني في ملتقيات رابطة الفكر والإبداع، فوجّه لي الدعوة للمشاركة في ملتقى عن العولمة، وآخر عن قضايا البيئة، وثالث عن تجديد الخطاب الديني في 2010.

ومن سنتها 2010م لم أرَ الأستاذ بشير خلف حتى دُعيت في أواخر شهر أفريل 2021 إلى جامعة وادي سوف لمناقشة رسالة دكتوراة في العلوم الإسلامية قيّمة ومحترمة جدا لباحثٍ من أصلاء مدينة الألف قبة وقبة.. ويومها طلبت لقاء الأستاذ بشير خلف لأنه من غير المعقول أن أزور مدينة الواد ولا ألتقي الأستاذ بشير فاعتذر –أخذا بنصيحة الأطباء- بسبب أخذه لقاح وباء كُفاد، ولكنه أرسل لي حقيبة مملوءة بالكتب والإصدارات والمؤلفات المهداة إليّ، ومنها مذكراته (حياتي في دائرة الضوء)، فقرأتها بطريقة مغايرة عن قراءاتي لغيرها من المذكرات لاعتبارات كثيرة، لعل أهمّها وأوّلها أنني تعرّفت عن كثب على الأستاذ بشير خلف خلال تلك الندوات الثلاث التي كانت تدوم خمسة أيام بلياليها الأدبية النقاشية العبقة بكل صنوف المعرفة، والعاجّةِ بكل أصناف المفكرين والأدباء.. وكنت ألحظ شخصيته المتميزة وهي تدير النقاش وتتخطى المآزق الفكرية أو الفلسفية التي يتعقد وتنعقد حولها الحلقات النقاشية، وكيف يخلّصنا منها..

وما استهواني في مذكرات الأستاذ بشير هو تقاطعي مع أحداثها من جهة الأماكن التي بدأ حياته التعليمية فيها، فهو بدأ معلما في مدينة عنابة سنة 1964م وأنا كنت تلميذا سنتها في المدرسة الابتدائية بحي (جبانة اليهود)، وفهمت بعد قراءتي للمذكرات الكثير من الأمور المتعلقة بنظام التدريس يومها وبرامجه ومحتوياته وكتاب (حديقة القراءة) الصادر في لبنان، والذي كان عبارة عن سلسلة متكاملة لكل تلاميذ المرحلة الابتدائية، وسبب كون كل مديري المدارس فرنسيين، ومكانة أستاذ اللغة الفرنسية وهيمنته في المدرسة على أستاذ اللغة العربية المهمّش يومها، وغيرها من الأمور التي لم أجد لها تفسيرا أو حلا إلاّ من خلال مذكراته كمعلم وكمفتش أيضا، لأنه يوم تخرّج مفتشا سنة 1980م كنت في عامي الأخير من الدراسة الجامعية والتحقت سنة 1982م بالتدريس في المرحلة الثانوية، وللحق وللشهادة الصادقة لم أكن أفهم الكثير مما يدور حولي وأنا أباشر سنتي الأولى والثانية من التعليم الثانوي.. فضلا عن الكثير مما ورد فيها من الحوادث والسرديات والحكايات والقصص والوقائع والأحداث التي كنت فيها في طور الطفولة أو الشباب أو في بداية رجولتي..وغيرها كاشتراكنا في قضاء عقوبة سنتين في سجن عنابة وسجن لمبيز، حيث أمضى هو سنوات 1960-1962م في السجن وتكلم عن نظام وتركيبة سجن لمبيز، التي لا تختلف عنه في السنتين اللتين أمضيتهما بين سجن مدينة عنابة وسجن لمبيز سنتي 1981-1982م..

ومن مزايا هذه المذكرات أنها قد  كُتبت بيد صاحبها، على العكس من غيرها التي ينبري كاتبٌ أو روائي أو أديب متطوع أو مستأجر أو مأجور، كأولئك الذين كتبوا مذكرات الرؤساء والقادة والسياسيين والمجاهدين والمناضلين.. وقد أعطى لها عناوين جزئية بحيث يسهل على القارئ تتبُّع الجزئيات فهما وتتبعا ومعنى ومغزى وتحليلا واستنباطا ونقدا.. وإن كان يحفظه الله لا يترك جزئية أو معلومة إلاّ ويعبر عنها بصدق وبتلقائيته وسوفيته ولباقته وأدبه وأخلاقه وصراحته المعهودة.. ولو كان المعني أو المذكور ذا مرتبة أو مكانة عالية جدا.

وقد أعطى لمذكراته عناوين كبرى وفرعية عكست صنعته الأدبية بوضوح وبفنيات راقية، بدأها بمقدمة موجزة عن فن السيرة والسيرة الذاتية في الأدب العالمي والأدب العربي، ثم تناول أهم إشكالية في كتابة المذكرات والسير والتراجم، وهي ماذا نقول؟ وماذا نخفي؟ وما يجوز لنا قوله؟ وما لا يجوز لنا قوله؟ وهي إشكالية في الثقافة العربية من جهة، وإشكالية كبرى في المنظور الديني. لأن الستر في الإسلام مبدأ وجزء من الإيمان والحياء.. فلا يمكن الكشف عن كل شيء وحدث.. على العكس من الثقافة الغربية التي لا تعرف الحواجز والطابوهات، أو كما يفعل بعض أدبائنا المتحللين أمثال (الأمين الزاوي) في روايته السمجة والمُسفة جدا (وليمة الأكاذيب) العامرة بالرذائل والفواحش والمثلية والجندرية والتي تجاوز أفعال قوم لوط التي سترها الله على صاحبها فما كشفها عنه..

ثم انطلق في تناول أصله ونسبه وحياته ووالده ووالدته وحياتهم البائسة في ظل سطوة وقهر النظام الاستعماري الفرنسي على الجزائريين عموما وعلى سكان الصحراء والجنوب خصوصا الذين كانوا يخضعون للنظام العسكري، ثم كيف حفظ القرآن الكريم واستظهره ثلاث مرات وصلى بالناس والفقر يعتصره بعد وفاة والده إذ صار هو في سنة السادسة عشر معيل الأسرة، حتى حنّ عليه بعض التجار السوافة في مدينة عنابة وصار يعمل عنده، ثم كيف انضم لصفوف الثورة التحريرية بعنابة سنوات 1958-1960م تاريخ اعتقاله وسجنه، متحدثا عن تجربته في السجن الجديرة بالاطلاع، ثم خروجه وانضمامه لصفوف الجيش الشعبي الوطني، ومتابعته لدراسة واستقالته من الجيش سنة 1964م والتحاقه بسلك التربية والتعليم وما شاب ذلك من ظروف قاهرة ومذلة.. وقراءاته المتميزة وكيف كان يقرأ جيله، الذي تابع دراسته وفق نظام التعليم عن بُعد بالمراسلة.. فمفتشا فمتقاعدا، مفصّلا الحديث عن قطاع التربية والتعليم آنئذ.. دون أن ينسى تناول تجربته الأدبية كأديب وقاصّ وكاتب ورحلته مع بداياته الأولى للكتابة الصحفية، وتجاربه الفكرية والثقافية والأدبية.. وتفاصيل أخرى دقيقة تناولت واقع الجزائر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفكري والتاريخي والديني والأدبي.. ذاكرا سيرة الكثير من الأشخاص والأعلام والرجال مواقفهم ممن كانوا يظهرون بغير مظهرهم الذي نعرفه عنهم..  وختم مذكراته بالحديث عن رحلاته المختلفة وتحليله لبنية ونفسية وأخلاق وقيم من صاحبوه في تلك الرحلات، مقدما وصفا عن حقيقة تلك الشعوب.

وفي اعتقادي بعد قراءتي لأكثر من ثلاثمائة سيرة ذاتية في حياتي الفكرية أن الأستاذ بشير خلف استطاع أن يترك لنفسه ذِكرا ما بقي هذا الكتاب، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!