جواهر

قممنا الشّماء خلف البحار

أماني أريس
  • 4098
  • 19
ح.م

من منزلها بقلب عاصمة الجنّ والملائكة؛ تتسلّل رائحة طبخها الجزائري الشهي إلى بيوت جيرانها الفرنسيين، ويزاحم صوت الفضائية الجزائرية، أصوات قنواتهم التلفزيونية، ومن دون عقدة مازالت تلبس جلابتها، وتدسّ حافظة نقودها في صدرها، ثم تحمل قفتها، وتتجه إلى السّوق.

وبولائها اللامتناهي لتقاليد وطنها الأمّ، مازالت تحرص كل سنة على جلب عُدّة الطعام السنوي من مختلف المعجنات التقليدية، وتركز خاصة على الفريك وهو المادة التي تحضر بها الشوربة على مدار أيام شهر رمضان، كما أنّها لا تفوّت فرصة الذّهاب لآداء صلاة التروايح مع ابنتها وزوجها، هذا ما يرويه عنها كل وافد لبيتها من أرض الوطن، حيث يعود مندهشا من تشبثها المحكم بجزائريتها؛ إنّها قمّة شمّاء من قمم الأصالة، لم تغيّرها السّنون في ديار الغربة، ولم تسرقها يد العصرنة التي اختزلت كل مراسيم التحضير للمناسبات وحتى الأشغال الروتينية بكبسة زر، وأفنت نكهة الإحساس بروحانياتها.

هي واحدة من بين آلاف المغتربات الجزائريات في بلدان غير إسلامية، اللواتي حق لنا أن نفخر بهنّ، ونترصد بفضول تفاصيل حياتهن، ونريق مداد أقلامنا لتدوين يومياتهن، هنّ لسن مجرّد هياكل شغلت حيزا من الجغرافيا، دون أي قيمة مضافة، هنّ كتاب يروي قصة الرحيل بروح أمّة إلى ما خلف البحار، وتفاصيل صفحاته معاركٌ من أجل فرض الذّات، فليس من السّهل أن تنتقل امرأة إلى مجتمع مختلف بكل خصوصياته التاريخية والحضارية وتصمد في وجه تياره الجارف، وتحافظ على مقوّمات كيانها الأصلي.

وإن كان بعض المفكّرين يعرّفون الاغتراب على أنّه ذلك المكان الشاغر بلا دلالة تأسيسية، فإن هؤلاء النساء شكّلن الاستثناء بتعمير ذلك الفراغ وبذل كل مجهود لملء ثغراته، وأقمن همزة وصل بين وطنهن الأم وأوطان الغربة.

هؤلاء الجميلات الأصيلات، أعطين درسا عفويا للمتآكلة جلودهم بمجرد أن يلمسها هواء ما خلف المتوسط، أولئك الذين يغادرون أوطانهم مثقلين بعقدة الدونية من أنفسهم ومجتمعاتهم، ومبرمجين على منعكسات الانبهار ببريق ما خلف البحار، فتجدهم يغرقون في دوامة شتات داخلي بمجرد أن ينزلوا إلى تلك الديار. ولا يخرجون منها إلا متنصلين، متنكرين لأصولهم. وتجدهم يعودون إلى أرض الوطن ناضحين برغبة الفخر والفشخرة.

هؤلاء الحرائر الأبيات، مددن يد العون في تضميد جراح الوطن المطعون، بنقل ثقافته إلى أمم مازالت تبعات مسخها الثقافي تعبث بألسنة شعبنا، وتعيث فسادا في نفسيات الكثيرين!

مقالات ذات صلة