الرأي

قُلْ لُو يَستنّى

إن أشدّ الأدواء خطرا وأسوأها أثرا على الإنسان ليس هي الأمراض العضوية من قلب، وكبد، ومعدة، وعين، وأذن، وأنف، وصدر… ولكنه هو الجهل الذي عالجه الله – العليم الحكيم – الذي خلق الإنسان، وعلمه بالقلم.

إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يتعلم لينتفع  بالعلم؛ فيه يداوي أمراضه، ويستنبت غذاءه، وينسج لباسه، ويصنع ما هو في حاجة إليه من أجهزة وآلات، وينشئ به المؤسسات..

ولكن آدم – عليه السلام – عندما كان في الجنة لم يكن محتاجا إلى استنبات نبات، أو صناعة أجهزة وآلات، أو إنشاء أبنية ومؤسسات… لأنه لايمرض، ولا يجوع، ولا يعرى، ولا يظمأ ولا يضحى، إذ يوجد في الجنة “ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”، كما قال سيد البشر – عليه الصلاة والسلام – ومع ذلك فإن الله – عز وجل- علم آدم الأسماء كلها، وشرّفه بها، وأسجد له من لا يعصون أمره ويفعلون ما يؤمرون، وهم ملائكته المكرمون. وإلى هذا تشير الآيات الكريمات من سورة البقرة في قوله عز وجل: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: إني أعلم ما لا تعلمون، وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم، قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتموت”، ومن هنا نستنتج أن العلم لا بد منه للإنسان، فبه كماله، ولولاه لكان مجرد كائن يأكل ويتمتع ويشبع غرائزه كما تفعل الكائنات الأخرى.

وكم أعجبني ما أورده إبن مريم في كتابه “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان”، (ص 167) من أن خال الإمام أبي عبد الله محمد بن  أحمد الشريف التلمساني أخذه عندما كان صبيا إلى مجلس الإمام عبد الرحمن أبي زايد ابن الإمام، فلما ذكر الجنة وما فيها من نِعم، قال له ذلك الصبي: “يا سيدي، هل يُقرأ فيها العلم؟ فقال له الشيخ: نعم، فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذّ الأعين”، فقال له ذلك الصبي: “لو قلت لي: لا علم فيها، لقلت لك: لا لذّة فيها”، فاستحسنه الشيخ، وعجب منه، ودعا له. ومما ذكره ابن مريم عن الإمام محمد بن أحمد الشريف التلمساني أنه “ابتدأ الإقراء وهو ابن إحدى عشرة سنة”.

وها هي حكمة الباري – جلّ وعلا – في إعلاء مكانة العلم وإغلاء قيمته تتجلّى في أول ما أنزله من آياته المنطوقة على آية آياته المخلوقة () سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام – وهي قوله عز وجل: “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم..”

وهذا ما جعل المستشرق البريطاني مونتجومري واتْ يعجب من أن يكون الأمر بالقراءة هو أول ما نزل من القرآن الكريم؛ في حين كان المنتظر أن يكون الأمر بالعبادة هو أول ما ينزل (❊❊)، وما أجمل قول الشاعر أحمد شوقي في هذا الشأن:

ونودي: اقرأ، تعالي الله قائلها      لم تتّصل قبل من قيلت له بفم

إن الدّارس لتاريخ البشرية منذ فجره إلى الآن يجد أن كلّ ما أقيم من حضارات، وما حقق من إنجازات، وما أسس من منشآت، وما اخترع من مخترعات إنما كان بفضل العلم، وأنه ليست هناك حضارة قامت على غير العلم، وليست هناك دولة سطع نجمها، وذاع ذكرها، وخلد اسمها، وعلا مجدها بغير العلم، فهو – كما قال الإمام عبد الحميد ابن باديس – رحمه الله، ورضي عنه، وأرضاه:

“وحده الإمام المتّبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات (1)”، وهو كما قال محمد الأعرج السليماني “الحد الفاصل بين الإنسان والحيوان الأعجم، ولو كان فضل الإنسان بالنطق دون علم لكان هو والببّغاء سواء (2)”. فـ”العلم هو القوة التي تقوى بها أمة على أمة، والجهل هو سبب انحطاط فريق عن فريق (3)”.

 لقد قرأت في بعض ما كتبه العالم الهندي وحيد الدين خان أن الزعيم نهرو أراد أن يعرف سرّ تقدم اليابان رغم صغر مساحتها، وانعدام الثروات فيها، وسرّ تخلف الهند مع اتساع مساحتها وكثرة ثرواتها فدعا ثلة من العلماء وأرسلهم إلى اليابان لدراسة الأمر وإعداد تقرير عن ذلك.. وبعد فترة رجع أولئك العلماء ومعهم تقرير قصير جدا وهو: إن السر في ذلك هو العلم، فاليابان تعلي مكانة العلم، وتغلي قيمته، وتفضيل أهله على من سواهم. ومنذ ذلك الوقت – بداية الستينيات – أعطت الهند الأولوية الكبرى والأهمية القصوى للعلم وأهله، وها هي تصير بعد خمسين عاما دولة متقدمة، تغلبت على أكثر مشكلاتها، وهي تنافس كبريات دول العالم.. وأما نحن الجزائريين فقد صرنا إلى ما قاله الإمام الإبراهيمي عن أحد سياسيّينا:

 وأمّة يقودها مزغنّة       يقودها للنّار لا للجنة

وعلى ذكر اليابان ومكانة العلم في حياة أهلها، وقيمة العالم عندهم فهو أن اليابانيين كانوا يعتبرون امبراطورهم إلى نهاية الحرب العالمية الثانية “ربّا”، فيقدسونه، ويركعون له، ولكن طائفة وحيدة معفاة من الركوع للامبراطور هي طائفة المعلمين والعلماء.. وأما عندنا فأحقر فئة هي فئة المعلمين والأساتذة، الذين صاروا يضربون من تلاميذهم وطلابهم، لأن هؤلاء شاهدوا الدولة تأمر الشرطة بضرب المعلمين والأساتذة إن اعتصموا، أو أضربوا نشدانا لحقوقهم، ودفاعا وغيرة على كرامتهم.. في الوقت الذي يستقبل فيه مغنو الرّاي على أعلى المستويات، ويعطون أغلى المرتّبات.

إن علة العلل في الجزائر التي أوردتها هذا الوِرد السيء، وإن أدوأ الداء الذي ردّها أسفل سافلين، وأنزلها إلى هذا الدرك الأسفل بين الأمم حتى الصغير منها والفقير، رغم ما حباها الله – عز وجل – من خير كثير هو أن كثيرا من مسيّريها أعداء للعلم وأهله، وقد رأينا بعض من هم أقرب للجهل منهم للعلم يحتلون عدة مناصب سامية، ويبعدون أهل العلم، ويسيئون إليهم، وفي أحسن الأحوال يكلفونهم بغير ما يُسّروا له، وذلك من علامات الساعة كما صحّ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

إن ما جعلني أضحك وأبكي في الوقت نفسه ما أُخبرت به مؤخرا من أناس ثقات هو أن مسئولا “كبيرا” في إحدى الولايات قيل له: لقد جاء “الفاكس” فأجاب من أخبره بقوله: “قل لُو يستنّى”، “اعتقادا” منه أن “الفكس” الذي جاء هو بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق”، ورحم الله العالم الجزائري محمد الأعرج السليماني الذي قال عن بعض الجاهين:

رضوا بالبخس في سوق المعالي        فظنّوهـــا لجهلهــــم اغتنامــــا

فدعهم في غباوتهم ستبلى           سرائرهم، وينصرموا انصراما

وهل تجدي معالجة لميت          وهل يغني الصّريخ لمن تعامى(4)

 

الهوامش:

) اعتبر بعض العلماء أن سيدنا محمدا – عليه الصلاة والسلام – آية معجزة، وقال كلمة جميلة في هذا المعنى، وهي: “محمّد في الأنام كالقرآن في الكلام”.

❊❊) انظر كتابه: “محمّد صلى الله عليه وسلم” في مكة.

1) آثار الإمام ابن باديس.. ج1. ص 139

2) محمد الأعرج السليماني: “اللسان المعرب عن تهافت الأجنبي حول المغرب”. ص 160، وهو عالم جزائري من معسكر، ولد سنة 1868 في المغرب، وتوفاه الله فيه سنة 1926، انظر عنه: عمار هلال: أبحاث ودراسات في تاريخ الجزائر المعاصرة، ص 296 وما بعدها، وسعد الله، أبو القاسم: تاريخ الجزائر الثقافي.. ج.7.

3) المرجع نفسه.. ص 134..

4) بنعدادة آسيا: الفكر الإصلاحي في عهد الحماية.. ص 270.

> سيطبق برنامجه، أي أنه لن يطبق برنامج الرئيس سواء كان بوتفليقة أو غيره!

عبارة: إلاّ بوتفليقة، تقابلها عبارة: بوتفليقة أيضا.. فإذا كان جمع يرى بأن الوزير والوالي والمير والنائب والمدير هم الذين يتحملون “البهدلة” التي يعيشها الزوالية، مستندين في ذلك إلى “مشاريع وإنجازات” الرئيس خلال عهده، وخاصة ما تعلق منها باستعادة الأمن وتحقيق المصالحة، فإن جمع آخر، يستند في “توريط” بوتفليقة وتحميله المسؤولية إلى “الإخفاقات” المسجلة بالحكومة والبرلمان والإدارة، والقدرة الشرائية وحتى الإصلاحات والتعيينات في المناصب والوظائف العليا وكذا السياسة الخارجية!

.. هي تناقضات واختلافات تعكس صراعات وخلافات، وتنبئ بأن الحملة الانتخابية ستكون فعلا حامية الوطيس، وقد يُقال فيها ما لا يجب أن يُعرف، لكن الأكيد المؤكد، أن كل الأصوات التي تتهم وتحلم، هي أيضا تتحمّل “كوطة” من وزر تيئيس الأغلبية المسحوقة من الجزائريين بالوعود والعهود الكاذبة والهدرة.. وكذلك بأكل الغلة وسبّ الملة!  

مقالات ذات صلة