كل شيء عندنا يَقتل !!
عندما سئل الراحل محمد بوضياف مطلع التسعينيات عن الديمقراطية في الجزائر ومتى يسود القانون والعدالة الاجتماعية، قال إننا لن نصل إليهما حتى نحترم قانون المرور ونحترم النفس البشرية والكرامة الإنسانية.. وبعد عقدين من الزمن عن ذلك التصريح، يمكننا القول إننا أبعد ما يكون عن الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية واحترام القوانين وحتى النفس البشرية، لأن حوادث الطرقات لا تزال تحصد القتلى وتودي بحياة أكثر من مائة قتيل وآلاف الجرحى في أول أسبوع من رمضان، والمعدل السنوي للضحايا لا يزال يفوق أربعة آلاف قتيل من أبناء الجزائر خلال العشرية الماضية، مما يعني مقتل أكثر من ثمانين ألف مواطن جزائري بسبب حوادث المرور منذ قال الزعيم الراحل محمد بوضياف كلامه عن الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية وكل القيم التي نفتقدها تباعا، لأن الدولة التي كنا نعتقد بأنها لا تزول بزوال الرجال يقودها بعض أشباه الرجال نحو الزوال بفعل جهلهم وكذبهم وتهاونهم وأنانيتهم، ويتصرفون فيها كما يتصرفون في ممتلكاتهم الخاصة، فيقتلوننا عشرات المرات بأفعالهم وافترائهم واحتقارهم للشعب وبقائهم في مناصبهم وعلى رقابنا رغما عنا ..
- ندرك بأن الموت واحد مهما تعددت الأسباب، ولكن في جزائر اليوم كل شيء صار يَقتل، فأبناؤنا يموتون عند نزول الأمطار وعند ارتفاع الحرارة، ويموتون بسبب الأمراض البسيطة ومن شدة اليأس والقهر، ويموتون في الأفراح والأقراح وفي الملاعب والشواطئ والمستشفيات والساحات العمومية.. يموتون في كل زمان ومكان ولأتفه الأسباب، حتى صار الموت نفسه تافها، وصارت النفس البشرية رخيصة لا قيمة لها يفرط فيها أبناؤنا بكل سهولة..
- حوادث الطرقات تزهق سنويا آلاف الأرواح، وسط قلة وعي وعجز رهيب لكل المؤسسات المعنية التي لم تقدر على التخفيف من الظاهرة، حتى أصبح إرهاب الطرقات أخطر وأعنف من الإرهاب التقليدي. ومع ذلك، من ينجو من إرهاب الطرقات يموت في المستشفيات بسبب ألم في المعدة أو وجع في الرأس، أو ارتفاع في الضغط وانخفاض في السكر، أو حتى بسبب حمى بسيطة.. لأن كل شيء صار رخيصا ومستشفياتنا في حد ذاتها مريضة!!
- إذا تهاطلت الأمطار في فصل الشتاء يموت المئات بسبب الفيضانات وانسداد قنوات الصرف وتأخر الإسعافات أو إهمالنا لقواعد وشروط البناء، وإذا اشتد الحر في الصيف تحترق الغابات وتنقطع عنا الكهرباء ويموت المئات أيضا بسبب الإهمال ونقص وسائل الترفيه والتبريد والتخفيف على المواطنين. أما إذا حلت بنا الكوارث الطبيعية حتى لو كانت زلزالا بسيطا، فإن الموت يلاحقنا ويلازمنا كلنا دون استثناء.
- ليس هذا فحسب، بل أصبح الموت في الجزائر يخطف الصغير والكبير على حد سواء، لأن الهم والغم والظلم والحسرة و”الحڤرة” كلها عوامل يموت بسببها الجزائريون، أو تؤدي إلى وفاتهم وهم أحياء، فيفقدون الأمل والطموح في البقاء، ويزدادون ألما وحسرة عندما لا تلوح في الأفق بوادر الإصلاح والانفراج والتغيير.
- الجمود السياسي والركود الاقتصادي والثقافي والوضع الاجتماعي المأساوي الذي نعيشه قتل فئات كثيرة من أبناء الشعب، وقتل فينا كل رغبة وقدرة على البقاء في وطننا وبين أهلينا، ودفع بشبابنا إلى “الحرڤة” والموت في أعماق البحار هربا من وطن يملك كل مقومات التطور والرقي والغنى، ولكن الانتهازيين والمطبلين والمزمرين والفاشلين والمفترين وكل المتواطئين معهم قتلوا في أبنائنا كل طموح وأمل في التغيير، بسبب انعدام الكفاءة لديهم وخوفهم على مصالحهم ومكتسباتهم، وخوفهم من جيل الاستقلال والشباب وانعدام الشجاعة لديهم في الانسحاب وتسليم المشعل لمن يستحقون.
- النفس البشرية لم تعد لها قيمة عندنا للأسف الشديد، ولكن ليس إلى الأبد، لأن الشعب حي والوطن باق رغم الموت الذي يملؤه.. الاستعمار قتل الملايين ولكن الشعب بقي حيا، والإرهاب قتل الآلاف ولكن الوطن بقي صامدا، والسلطة والمال والظلم قتلوا الضمائر والقلوب والعقول، ولكن أبناءنا متشبثون بضرورة التغيير والتطوير والتجديد للرجال والمؤسسات، طال الزمن أم قصر، لأن الحياة الكريمة حق لكل شخص مهما كان وأينما كان، والتاريخ سيلاحق كل قاتل وظالم وكاذب، وسيسجل أننا لن نرضى بغير الحرية والكرامة والعدالة والسيادة للشعب لا للأشخاص مهما كانوا، وسنصل بالجزائر إلى الديمقراطية والكرامة الإنسانية التي كان يحلم بها الراحل محمد بوضياف وكل من ضحى من أجل الوطن، وسنصل بالجزائر إلى المكانة التي تستحقها بين الأمم.. وغدا يوم آخر..
- derradjih@gmail.com