-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كمال يوسف تومي.. العالمُ العبقري والرجل القرآني

محمد بوالروايح
  • 4234
  • 2
كمال يوسف تومي.. العالمُ العبقري والرجل القرآني
ح.م
كمال يوسف تومي

 يحتفي العالم الإسلامي بالبخاري ابن “بخارى” وتتحدث المجلدات عن قوة ذاكرته وحضور بديهته، ولكن قليلين في هذا العالم من يحتفي بعالم “قصر البخاري” كمال يوسف تومي الذي يلتقي مع البخاري فيما ذكرته من الملكات العقلية ولكن يختلف عنه في أن بخاري “بخارى” اهتم برواية الأحاديث النبوية وأما عالم “قصر البخاري” فاهتم بنشر الأبحاث العلمية في مجال الهندسة الميكانيكية التي أبدع فيها وأمتع بشكل أكسبه كثيرا من الاحترام ومكنه من حجز مكانه بين الكبار في هذا المجال.

إن المقابلة بين الإمام البخاري وكمال يوسف تومي افتراضية والقصد منها بيان أن الإسلام دين يهتم بعلوم الاختراع اهتمامه بعلوم الاشتراع، ويهتمُّ بالمسائل الكونية اهتمامه بالمسائل الفقهية ويهتم بالقضايا الفلكية اهتمامه بالقضايا الفكرية؛ فالعلم في الإسلام بناءٌ متكامل يشترك فيه علماء الحكمة وعلماء الشريعة وفق القاعدة الرشدية المعروفة في “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”؛ فالإسلام هو الدين الذي تتحقق فيه معاني التكامل المعرفي، وهو الدين الذي لا يعرف ولا يعترف بالعلمانية التي تفصل بين الحكمة والشريعة، وهو الدين الذي يلخص قرآنه هذا التكامل بقوله تعالى: “شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم”.

أحسب أن كمال يوسف تومي ابن قصر البخاري من العلماء الذين جسّدوا حقيقة التكامل بين جلال الشريعة وجمال الحكمة، وبين حقائق الإسلام وحقائق العلم، مؤكدا بذلك مبدأ إسلاميا راسخا وهو أن العلم في الإسلام وسيلة من وسائل معرفة المنعم وتحصيل النعم.

لقد آمن كمال يوسف تومي بأن الثقافة القرآنية التي شب عليها وتشبث بها منذ نعومة أظفاره هي النبراس وهي الأساس الذي يؤسس عليه ثقافته العلمية مقتديا في ذلك بمالك بن نبي الذي يكتشف القارئ لكتبه لأول وهلة حجم الاغتراف من معين القرآن، وقد شاء الله بعد رحيل بن نبي أن ينشأ في الجزائر عالم عبقري مثل كمال يوسف تومي يحاكي بن نبي، يكمل مشواره ويضيف إلى التراث الجزائري الإسلامي كثيرا من لمسات الإبداع.

لقد استمعتُ وقرأت كثيرا لتومي فاكتشفت فيه شخصية العالم العبقري الذي ينطلق من الفكرة الواحدة ليؤسس مشروعه العلمي، سالكا في ذلك مسلك التدرُّج في بناء المعرفة، حريصا –كما قال- على تكوين الإنسان الذي يمتلك الأفكار الجيدة التي يمكن أن نُخرِج منها كثيرا من المشاريع العلمية بتطبيق نظرية التدرُّج، فكرة أولى نحدد بها الوجهة وفكرة ثانية نصحِّح بها هذه الفكرة وفكرة ثالثة يمكن أن نجسِّدها ونطبقها في ميدان أو أكثر من الميادين العلمية.

في الحديث: “لا تحقرنَّ من المعروف شيئا” ويمكن أن ننسج على منوال هذا الحديث –تجاوزا- فنقول: “لا تحقرن من الأفكار شيئا” لأن المشاريع الفكرية الكبيرة مبدأها من الفكرة الصغيرة وهذا ما قام به كمال يوسف تومي إذ يورد في سيرته الذاتية أنه لما كان شابا يافعا كان شغوفا بتصميم وصناعة بعض الآلات الميكانيكية، ثم كبُر الشاب ونضج عقله، وتحوّل مصلح الآلات إلى عالم في مجال “الروبوتات”، وليس خفيا على أحد اختراعه أسرع “روبوت” في العالم الذي حقق به إنجازا علميا باهرا أصبح مرجعا للمشتغلين في عالم “الروبوتات”.

لا يمكنني أن أوفي تومي حقه أو أحيط بكل اكتشافاته وإنجازاته العلمية، ولكن حسبي أن أقول إن هذا العالم العبقري ينبغي أن يكون قدوة للباحثين الجزائريين الذين لا نجد لأكثرهم إنتاجا علميا جديرا بالاهتمام، فإذا كان هؤلاء يتحجَّجون بالظروف غير الملائمة أو المزرية حسب رأي بعض المتشائمين، فإن هذه الظروف في أسوأ حالاتها أحسن بكثير من الظروف الصعبة التي عاشها تومي وأقرانه في زمن شحَّت فيه الموارد، فقد كان تومي في مرحلته الثانوية يقطع أميالا بين المدية وقصر البخاري، ولكن ذلك لم يُثنه عن الجد والاجتهاد، لقد صبر الرجل وصابر وثابر إلى أن وصل إلى أعلى المراتب.

أكد كمال يوسف تومي في حوار صحفي أن الاستثمار في العقل هو أفضل استثمار على الإطلاق لأنه ببناء العقل يمكن بناء المجتمع، وحينما سُئل عن رأيه في مبادرة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائر تشجيع الأدمغة الجزائرية المهاجرة على العودة والمشاركة في النهضة العلمية الوطنية أجاب: “مبادرة جيدة للغاية، لكن ليس المهم هو عودة الباحثين الجزائريين إلى الوطن، بل دراسة كيفية الاستفادة من أبحاثهم من منظور نقل تكنولوجيا المعرفة، فالجانب النظري في الجزائر ممتاز، لكن مجال التطبيق ضعيف للغاية، ومع الموارد المالية الكبيرة، يجب الاستثمار في مثل هذه التكنولوجيا. دولة سنغافورة مثلا، ليس لديها أيُّ ثقافة للبحث العلمي، لكنها استثمرت مبلغ 3 مليار دولار وتعاقدت مع مركز MIT طيلة أربعة عشر سنة في مجال الطب والإعلام الآلي، كما تقوم بانتقاء الباحثين بمعايير جد دقيقة لتكوين علاقات بحث مع أساتذتها وطلبتها”.

ليس من قبيل المصادفة أن يتحدث تومي عن تجربة سنغافورة في تشجيع وتوطين البحث العلمي؛ فسنغافورة كما يذكر كثيرٌ من العارفين بتاريخها وشؤونها من البلدان التي انطلقت من الصفر لتحقق بعد ذلك ما يشبه المعجزة، وسنغافورة الآن رائدة في مجالات كثيرة بفضل إيمانها بقدراتها الذاتية وكفاءة عقولها الوطنية التي صنعت في فترة سابقة المجد العلمي لكثير من الدول ثم جلبت بأي ثمن لكي تساهم في نهضة الوطن.

لقد شُرِّفت بدعوة تومي حينما كنت نائبا لمدير جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة إذ كان حضوره إلى الجامعة ومحاضرته بها شيئا رائعا ومميزا، فقد حلق بنا في فضاء العلم وتحلق حوله الكل للنهل من أفكاره، وكان ختامها مسكا إذ أتحفنا بترتيل آي من الذكر الحكيم على طريقة كبار المقرئين، فاكتملت في أذهاننا عن كمال يوسف تومي صورة العالم العبقري والرجل القرآني.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • عبد الرحمان الجزائري

    سنوات التسعينات كانت خطة مدروسة لقتل و تهجير علمائنا و اطبائنا و مثقفينا ليستفيد منهم الغرب و نبقى نحن نتخبط في اتفه الاشياء تحت سلطة اعضائها مرضى الجاه والسلطة و اعمار الشكارة

  • صنهاجي قويدر

    العلم نور والجهل ظلام ، سيذكرني قومي إذا جد جدهم .... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر