-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كنوزٌ مفقودة في الثقافة الأورو- أمريكية

كنوزٌ مفقودة في الثقافة الأورو- أمريكية

العقل وحده لا ينجد صاحبه بما يكفي ليدرك كنه ما يفعل، وربما جنى الإنسان على نفسه من حيث ظن أنه يحسن. انظر إلى مصنع “آزوفستال” للتعدين كم صُرف عليه من مال ليُشاد، وكم كان يقدِّم للإنسانية من نفع عندما كان ينتج، ثم كيف آل هذا الصرح العظيم إلى طلل مركوم بفعل الآلة الحربية التي أمدها يوما بالمعادن. المدافعون عنه يقاتلون بضراوة وفي ظنهم أنهم يصنعون مجدا لأمتهم، والغازون مصرُّون على افتكاكه من عدوِّهم ولو أصبح أنقاضا، يزعمون أنه يرمز إلى حقٍّ اغتصِب منهم يوما، ولا مناص من استرجاعه ولو أضحى المكان يبابا.

محددات التفكير الأوروبي

لقد جرّ الأوروبيون على أنفسهم ويلات مدمرة وعلى البشرية، ففي مئة عام ونيف مضت خاضوا حربين عالميتين وثالثة تدق أبوابهم مستعجلة، أتت جميعا على ما أنجزوا من مآثر مادية ومعنوية على علّاتها، من دون أن يستشعروا بشاعة ما يفعلون؛ بل إن فلاسفتهم المحدثين الكبار نظروا للعدمية إن لم ينل ساستهم ما يرغبون؛ لا شيء يدفعهم إلى ذلك غير أهواء مجنحة وأنفس طماعة، لم تهذَّب بخلق سليم أو بدين قويم.

الفردية أتت على ما تبقى من روابط اجتماعية، عززتها المنتجات الالكترونية وبرامج الفضاءات الافتراضية؛ فلم تُبقِ ولم تذر للأسرة في العالم بأسره خيوطا تربطها، ولو كانت عنكبوتية، لتتواصل بها شعوريا وتتعايش فيهاسلميا، فالإحباط والعنف وحب النفس وكراهية الآخر والشذوذ في الطبع البشري حلت محل المودة والسكينة والرحمة، وسببت أوجاعا أقضّت مضجع القادة في الغرب فلم يجدوا لشكواهم من آس.

يقضم المحتلُّ الروسي أوروبا من الشرق قضما، فيفزع الأوربيون والأمريكيون إلى بعضهم سراعا لصدِّ هذا العدوان مهما بلغت بهم التضحيات، يصفون ما يفعله الروس بـ”الاحتلال المنافي للقوانين الدولية”؛ والحقيق بالذكر ألا تجد من بينهم رجلا رشيدا يصل بين ما هم فيه من بلاء وبين ما اكتسبته أيديهم في الأمس القريب. الثقافة المسيطرة على العقول الغربية ثقافة محدودة البصر، ولا يستطيع أهلها الاستدارة أكثر مما ينظرون، وإن حاولتَ إيقاظ وعيهم إلى أن الأيام دول، وأن عليهم أن يتغيروا ليدفعوا ما حل بهم من أخطار، عزّ عليك أن تجد لما تقول منصتا.

إن الحضارة الحديثة بشقيها الأوروبي والأمريكي تأسست على النفعية والأنانية، وإن جلّ ما قدمته للإنسانية قام على أنقاض الآخر بغية بناء الذات، ولم يسعَ أهلها القائمون عليها البتة إلى تقديم الخير لغيرهم كيما يكونوا صِنوًا لهم، بل سعوا إلى تخريبه؛ والقارة الإفريقية المستعبَد أهلها قديما، وما هي عليه من حال رث لا يندبها فيه أحدٌ منهم حديثا، شاهدٌ على مخرجات هذه الثقافة.

إن ذلك التناقض في القيم التي تتبناها دول الشمال ولّدت صداعا مزمنا في علاقاتها بالدول الجنوبية، التي لا تفتأ تعيّر الأولى بالمعايير المزدوجة، عندما تقارب معها قضايا تبدو عادلة، أقـرَّتها المواثيق والقوانين التي وقَّع على بنودها الجميع. إن تصفية الاستعمار،كما في فلسطين المحتلَّة، وإشاعة السلام والديموقراطية والحريات العامّة وحقوق الإنسان لدى شعوب المعمورة المخالفة للغرب في القيم، شعاراتٌ جوفاء استبطنت مكيدة مدمرة للآخر، ما دام الآخر ائتمنَ ناديا غير ناديهم.

مظاهر الحيرة في الثقافة الغربية

لماذا يصاب الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بالذهول، وهو يرى بلدان العالم خلوا مما يحدث عنده من تقتيل جماعي لطلاب المدارس الابتدائية على يد مواطن يحمل ثقافة العالم “الحرّ”، التي سعت الولايات المتحدة سعيا حثيثا إلى عولمتها؟ إن المذهول حقا هو من يصدق أن رئيس أعظم دولة في العالم لا يجد من بين إدارته خبيرا يرفع عنه هذا الذهول! إن الداء مستفحلٌ في هذه الثقافة وهو أخطر من أن تعالجه القوانين. ولعل الولايات المتحدة أن تطرح هذا السؤال على المسلمين، فإن لديهم في هذا المضمار الشيء الكثير.

لم يكن التغير المناخي الذي يفتك بالكوكب الأزرق اليوم ابنَ الصحراء الكبرى، أو ربيب الغابات الاستوائية الكثيفة. لقد بدأ التخريب منذ أن قامت ثورة صناعية فاخر بها العالمُ الغربي نظيرَه الشرقي وأغرى بها دولا عظمى منه فاقتفت أثره وقاسمته المهلكة. ولم يبال هو ومن شايعه في هذا “التحضّر”، بما فعلوه في أرض، ليس بوسع البشرية أن تحيا على سواها إلا في الجنة.

وعبثا اجتهد خبراء المناخ في وضع الخطط للساسة كي توقى الأرض شر هذه الحمى، لأن السياسي والخبير عندهم لا يزالان يفتقدان إلى الرؤية الكونية، التي أراها أقرب إليهم من رباط العنق الذي به يتزَّينون. تلك الرؤية التي ترى أن الأرض مستقرٌّ ومستودَع، وُضع على مناكبها الإنسان ليعمّرها برفق وأناة، وليس عليه أن يكتسب من الآثام ما به يفسد الحياة. وصية من السماء بيّنة جلية، وقطوفها مثمرة دانية. فلمَ لا تحفظها الولايات المتحدة وحلفاؤها في “الناتو” فيحفظون بها للإنسانية هذه البسيطة الرائعة؟

هل كانت الأسرة، نواة المجتمع الإنساني، بمنأى عن هذا التردي؟ كلا! فالفردية أتت على ما تبقى من روابط اجتماعية، عززتها المنتجات الالكترونية وبرامج الفضاءات الافتراضية؛ فلم تُبقِ ولم تذر للأسرة في العالم بأسره خيوطا تربطها، ولو كانت عنكبوتية، لتتواصل بها شعوريا وتتعايش فيهاسلميا، فالإحباط والعنف وحب النفس وكراهية الآخر والشذوذ في الطبع البشري حلت محل المودة والسكينة والرحمة، وسببت أوجاعا أقضّت مضجع القادة في الغرب فلم يجدوا لشكواهم من آس.

لقد أشاعت الثقافة الغربية النزعة المادية فاستحكمت في القلوب فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، وما عسى تلك القلوب أن ترحم وقد حشرت بين جوانحها الدولارات والرصاصات حشرا، وحالت دون أن تتدفق إلى سويدائها الينابيع الروحية، التي ما إن مزجت بثقافة إنسانية لمزجتها ثم أينعت بها، كما قد أينعت على جبين الحضارة، في يوم أغرّ قد مضى، مجدا، لهم أن يسائلوا عنه الإيبيريين.

وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر

وكم من كنوز دفينة بين الشعوب يمر عليها الغربيون وهم عنها غافلون، ولا يؤمن أكثرهم بالمعاني الشريفة إلا وهم مراؤون. لقد طبعت الثقافة الحديثة على القلوب فلم يروا في الحكمة الإلهية سوى أفكارا ميتافيزيقية، أبدلهم “جون ديوي” فلسفة خيرا منها، لا يخفونك أنها لم تسعفهم فيما هم فيه من حيرة وجودية، هم بها يألمون، فلا يستطيعون صرفها بحيلة ولا هم يهتدون إلى غيرها سبيلا.

تعجُّ الدول الغربية بمراكز البحث العلمية، منها المقرب من الحكومات ومنها المستقل الذي يبيعها معطيات، والكل يتسابق لتقديم الأفضل في جوانب الحياة كلها، الأفضل وفق القيم الأوروبية بطبيعة الحال. ولكن هل قدمت تلك المراكز ما هو الأحسن لمجتمعاتها حقا؟ من المؤكد أنك لن تجد مركزا علميا لديهم مسموع الكلمة يستطيع أن يبلّغ الإيمان بالله تعالى إلى هذه الشعوب “المتحضرة”، أو يرسم لها متصورات ذهنية لما سوف يكون عليه حالها لو أنها آمنت بربها. ومن الثابت فعلا أن المثقفين الغربيين يقرؤون ما تطوله أيديهم من نتاج فكري مستوحى من ثقافتهم، بيد أنهم مقلّون كثيرا فيما يطالعون من نظم الإسلام في مختلف المجالات، خليقة كلها بأن تقدم إليهم ترياقا ينفعهم فيما هم من أدواء؛ لأن فرضية إيمانهم بأصول بالإسلام جماعيا مستعبدة في هذا الزمان، لأغلال كثيرة تثقل الحرية الفكرية في هذه الثقافة المادية. وإن كان هدى الله لعباده ليس بعزيز.

قد يقول المستهزئ منَّا إن هذا حلما ثقافيا فاق الخيال، وبلاد الغرب أدرى بشعابها، فلم تُتعب نفسك بهذه المطارحات.. والجواب ميسور لمن قرأ رسائل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ملوك العالم في زمانه يدعوهم فيها إلى الإيمان والسلام، وهو لا يزال في يثرب لم تتجاوز دعوته حدود الجزيرة العربية. أما في عصرنا الحاضر، فكأن الناس فيه يركبون سفينة واحدة، وقد أصاب الدوار على ظهرها العقل الغربي فاحتاج منا إلى إنقاذ؛ عقل أوغل بعيدا في الثقافة فلم يجد غير الدمار في الانتظار.

وبعد، فيا أيها المستهزئ بنفسه! أما ترى أن هذا العلج الرومي مثقفٌ مثلك، وأنه بات، في هذه الحقبة المظلمة من تاريخه، أحوج الناس إلى من يلقي إليه طوق النجاة؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!