الرأي

كيف ستواجه الجزائر “الأزمات الخلاقة”؟ 

ح.م

ما تعيشه الجزائر، مؤخرا، من تحديات داخلية وخارجية، في سياق وطني وإقليمي مفتوح على كل الاحتمالات المصيرية، يُفترض أن يكون محفزا للحس الوطني الجماعي، ودافعًا نحو الاجتماع السياسي عوض الاختلاف، والحوار التقريبي بدل التنافر، والتلاحم ضدّ الفرقة، حتى نتوافق بشأن تشخيص وضع بلادنا ونرسم معًا آفاق الحلول والإصلاح والتنمية التي تؤهِّلنا لمواجهة رهانات مفروضة علينا جغرافيّا، وضمن تحولات كونيّة مُتجاوزة للمفاهيم التقليدية للسيادة.

إنّ المخاطر الخارجية التي تحدق بوطننا من كل صوب، مسألة موضوعية بعيدا عن خطاب الفزَّاعات، حيث الجزائر اليوم محاصَرة بفوضى الجماعات الإرهابية في الشريط الحدودي مع الساحل الإفريقي، وانهيار الدولة في ليبيا، وتداعيات الاحتلال بالصحراء الغربية، في ظل دخول الكيان الصهيوني وأذنابه الخليجيين على خطوط المنطقة الملغمة من الأساس، ثمّ الابتزاز الأوروبي الصريح بغطاء حقوق الإنسان المزعومة، حتى تجرّأ الاتحاد على إسداء الأوامر بشأن العلاقات المدنية والعسكرية المؤسساتيّة.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار تراكم تلك التحديات على أوضاع داخلية هشة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، برغم المكتسبات الأساسية التي أنجزها الجزائريون بعد حَراك 22 فيفري، فإنّ التفكير العقلاني والمسؤول يفرض علينا جميعا النظر بحذر شديد تجاه سيناريوهات المستقبل الذي نأمله واعدا، لكنّ معاول كثيرة تنغّصه الآن وتكثّف الغيوم في سمائه.

لا يختلف عاقلان بشأن أنَّ الجزائر لا تزال تعيش أزمة ثقة عميقة بين المواطن ونظام الحكم، وهو ما كرّسته مؤخرا نتائجُ الاستفتاء الأخير حول الدستور، ما يعني أنّ تمتين صلابة الجبهة الشعبية يُعدّ رهانا مستعجلا أمام تحديات الجوار الإقليمي.

كما أنّ الحالة الماليّة جد حرجة، بفعل العجز في بناء اقتصاد إنتاجي متوازن وفق المعايير العصريّة، عن طريق تنويع الموارد والخروج من شرنقة النفط الخانقة والمتهاوي الأسعار أصلاً، وزادت من ضبابيّة المشهد مضاعفاتُ جائحة كورونا، وهو ما أخّر تدشين الجزائر لمخططات الإنعاش التي راهنت عليها الحكومة، الأمر الذي جعل الخزينة العمومية في وضع استنزاف مزمن، دون بزوغ آفاق للتعافي المالي في المدى المنظور.

إنّ هذا الجمود الاقتصادي ستكون نتائجه سلبية، بصفة تلقائية، على المستوى الاجتماعي، أمام تفاقم البطالة وتنامي المطالب المهنية والسكانيّة، في سياق متأثر بموجة الحريّة التي فرضها الحَراكُ الشعبي، ما يُنبئ بتحوّل الانشغالات الاجتماعية إلى احتجاج وفعل سياسي ضاغط على السلطة، في وقت نحنُ أحوج ما نكون إلى جمع القوى الوطنية بكل أشكالها ومستوياتها، للتصدّي لرهانات كبرى تحدّد مستقبل الأجيال والدولة ذاتها.

إنّ المجتمعات الحيوية بنخبها الصادقة والذكيّة في قراءتها للأحداث من حولها، واستيعابها لتطلعات شعوبها، تصنع من تلك التحديات فرصًا للانطلاق، باعتبارها أزمات خلاقة وإيجابيّة، تحفّز بها الشعور بالمسؤولية والعمل والتحدّي، لإنقاذ دُولها من شبح الفشل أو التفكك أو حتّى مجرد التراجع أمام القوى المنافسة لها.

لذلك، فإنّ الجزائر اليوم، وأمام ما يحيط بها من ضغوط كبيرة، مُطالبة بجمع شتاتها وطاقاتها ولملمة ذاتها الوطنية، ولن يتحقق المسعى المرجوّ إلا بالاستمرار الجادّ والعاجل في تنفيذ الإصلاح السياسي التوافقي الفعلي، ومواصلة الحرب دون هوادة على الفساد ورؤوسه في كنف العدالة المستقلة، واستئناف انتخابات برلمانية ومحليّة شفافة، لإفراز ممثلين حقيقيين عن الشعب، يتولّون الرقابة على السلطة التنفيذية، وتنبثق عنها حكومة وحدة وطنيّة تمثيلية وفق نتائج الصندوق الانتخابي، حتى تكون مسنودة بحزام شعبي واسع، يمنحها الشرعية الكاملة والضامنة لاتخاذ القرارات والخيارات مع تحديد الأولويات الإصلاحية، وفق برنامج طوارئ تأسيسي لوثبة فعالة نحو الانتقال الديمقراطي والاقتصادي ضمن آجال زمنية محددة.

أما على صعيد التحرّر الخارجي، فإنّ المؤشرات الجيوسياسية والاستراتجية تدفع بالجزائر نحو البحث عن منافذ شراكة وتحالفات ومحاور جديدة، تجعلها أكثر قدرة على المناورة الدبلوماسيّة وتوظيف أوراق التعاون المتعدد الأطراف، عوض الارتهان لمراكز قوى دوليّة مجحفة في حق بلادنا، ومُثقلة بالتركة الإيديولوجية الكولونيالية التاريخيّة.

وما يزيد من وجاهة هذا الخيار هو السيناريوهات المحتملة في إعادة تشكيل بنية النظام العالمي عقب جائحة كورونا، والتي قد تفرض تغيرات جوهرية في علاقات الدول وحتى التكتلات الجهويّة والفضاءات الكونيّة، في ظل بروز لافت لقوى دولية وإقليمية صاعدة، مثل الصين وروسيا وتركيا وإيران والهند وأندونيسيا وغيرها.

غير أنّ المناورات المفتوحة على المستوى الدولي تبقى مرهونة بالتأسيس للشرعية السياسية الكاملة داخليّا، للتخلص من سلوكات الابتزاز والمساومة بكل أصنافها، لذلك يأتي الإصلاح الوطني مقدما دائما على السياسة الخارجية.

مقالات ذات صلة