-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف نبني موقفا سياسيا؟

التهامي مجوري
  • 1755
  • 1
كيف نبني موقفا سياسيا؟

يظن الناس ممن يحترفون النضال السياسي، أن الموقف السياسي، هو ذلك التصريح أو البيان، ألذي يصدره الحزب أو الشخصية السياسية أو السلطة في أمر ما، اصطلح على تسميته بموضوع الساعة، أو بلغة الإعلاميين الحدث.

والواقع أن ذلك ليس دائما يمثل الموقف، وإنما قد يكون رأي في قضية طارئة، أو تسجيل لموقف في حدث عابر؛ لأن السياسي لا يحسن به الغياب عن الساحة، لا سيما في الأحداث والوقائع ذات الطابع الوطني، ولذلك تجد يحرص على تسجيل الحضور بالقليل والكثير.

والسبب في هذا الخلط بين الموقف السياسي، وبين ما يصدر الناس من أراء وتصريحات سميت موافق، أن العلاقة بين السلطة والمعارضة ليست علاقة تفاعلية، تصب في مصب مصلحة الوطن والمواطن، وإنما هي علاقة انفعالية يحرص كل طرف منهما على توريط خصمه، أكثر من التفكير في كيفية الإشتفادة من إيجابياته، ولذلك نلاحظ أن ما يطفو على سطح الساحة السياسية، من تصريحات وأخبار ومعلومات، ليست دائما أحداثا طبيعية، وإنما أغلبها “بالونات اختبار”، وتسريبات موهمة، استفزازات طرف أو أطراف لخصوم لهم في الساحة، اتهامات واتهامات متبادلة، تهويل مواضيع وتهوين من مواضيع أخرى.. فيترتب عن هذه الأمور كلها أراء وتصريحات وتقييمات ومعارضات وموالاة، ثم سرعان ما تتحول هذه التصريحات والتقييمات والمعارضات والموالاة، التي كانت تبدو وكأنها مواقف إلى ما يضادها تماما، كما لو لم تكن. فلا عجب من أن يقول مسؤول في الحكومة مثلا أننا عازمون على توزيع كذا ألف سكن، ثم لا يظهر من هذه السكنات شيئا، أو يقول مسؤول حزبي لا أشارك في العمل الفلاني، ثم يتحول إلى واحد من دعاته، او يكون جزءا من السلطة ثم يتحول إلى معارض شرس.. كل ذلك قد تفرضه طبيعة الممارسة السياسية، ولكن كاستثناء وليس كقاعدة، أما ما نراه في الساحة، فهو الاستثناء الذي تحول إلى قاعدة، أو المؤقت الدائم.

إن الممارسة السياسية من أكثر الأمور تقلبا في حياة الناس، لارتباطها بكثرة المتغيرات، ففيها من الأطراف: السلطة والمعارضة والشعب والمعادلة الدولية، وفيها من العوامل المساعدة على التقلب والاستقرار: البورصة والمال والطاقة والإعلام، وفيها من القيم: العمل والأخلاق والتربية والثقافة، وجميع هذه الأمور لها دخل في اتخاذ الموقف سلبا وإيجابا، وتفرض هامشا من الريب في كل قضية يريد المرء مناقشتها..، ومع ذلك فهي في عرف الجادين من السياسيين علم له قواعده وله ضوابطه، تصل إلى حد لا بأس به من تقليص هامش الريب الذي هو ضروري في الحركة البشرية.

ولذلك قيل إن للموقف السياسي أربعة أركان.

الركن الأول: الاستقرار أو التوازن، أي استقرار المجتمع وتوازنه، وذلك بمعرفة مستوى هذا التوازن، ومستوى صلابته، وصموده أمام الاهتزازات. وهذا يتطلب من الناس الدراسة العميقة للمجتمع وتحولاته، وهذه الدراسة لم تعد قاصرة عند الجادين عند الماضي والواقع تجاوزتهما إلى مستوى التنبؤ وتوقعات المستقبل، فيذكر مستوى النمو أو مستوى التقهقر مثلا لمدة كذا سنة.

وذلك لأن معرفة مستوى الاستقرار في المجتمع، لا يساعد على معرفة الواقع الاجتماعي والسياسي فحسب، وإنما يتجاوزه إلى توقعات تبنى عليها المواقف والمشاريع التي يناضل من أجلها المهتمون بالشأن العام.

الركن الثاني: المعرفة؛ لأن المواقف والنضال والخدمة العمومية لا يعقل أن تقدم بناء على جهل أو انطباع عابر؛ إذ كل عمل يبنى على الجهل أو الانطباع العابر، لا مستقبل له ولا لصموده، مهما أوتي من قوة، قد يشفع للمجتمعات المظلومة صدقها، وصدق نضالها وتفانيها في طلب الحق، ولكن كل ذلك لا يحقق المطلوب إذا لم يكن مبني على معرفة ومعطيات صحيحة، وإذا حقق شيء يبقى هذا الشيء منقوصا، بسبب إهماله للدراسة الجادة والعلم.

يذكر المسلمون بإعجاب وانبهار كبيرين التجارب الإسلامية، إيران وماليزيا وتركيا، وهي تجارب فعلا تستحق الإكبار والإعجاب. فهذه التجارب لم تصل هذا المستوى من النجاح والتفوق إلا بالمعرفة، وإنزال العلم منزلته الفائقة، فالتجربة الإيرانية سنة 1979/1980، عندما انتصرت الثورة أول ما قامت به هو تعطيل كليات العلوم الإنسانية وتقليص نشاطها، ليفرغوا برامجها من محتوياتها العقدية والأخلاقية، ويملأوها بمقررات الثورة الجديدة، وهذا المنطق هو الذي قفز بإيران إلى هذا المستوى من التفوق السياسي والعلمي والتنموي؛ ثم إن إيران من عهد الشاه رضا بهلوي، كانت دولة تقدر العلم على ما بها من استبداد وفساد.

الركن الثالث: القاعدة الجماهيرية، التي هي المعني الأول بكل حراك وبكل فعل يراد القيام به وبكل تحول تسعى الطبقة السياسية إلى إحداثه، فالقاعدة الجماهيرية هي الشعب بجميع فئاته وتنوعاته وقناعاته الثقافية والسياسية، بل وتركيبته الاجتماعية. فهو الركن الثالث، من حيث معرفة رأيه فيما يراد قوله أو فعله؟ لأن الخير سيعود عليه والغير سيدفع هو ثمنه، ومن جانب آخر إذا كان السياسيون متباينون فيما يعرضون من تقديرات للنهوض بالمجتمع فإن كفة الجمهور هي المرجحة للرأي المعتبر، سواء بواسطة الانتخابات أو بواسطة الرضى والرفض الشعبيين (مسيرات مساندة واحتجاجات واستنكارات…).

لا شك أن المجتمعات التي لم تعرف من يقدّرها حق قدرها، ولم تعرف في حياتها إلا الاستبداد، لا تستطيع نخبها هضم هذه الحقيقة؛ لأن الأجواء الاستبدادية التي عاشت فيها، ولدت في ذهنها أن التغيير والإصلاح من مهام النخب العلمية السياسية، وخفي عنها أن ما تحققه النخب من مكاسب وهو من مهامها بطبيعة الحال، ولكن لا تحميه إلا الجماهير؛ لأنها هي التي سترضى به فيما بعد أو تتمرد عليه لكونه لا يتماشى وطموحاتها ومطالبها المشروعة.

الركن الرابع: موازين القوة، ونقصد بالقوة المادية والمعنوية، وهي من بركات العلوم السياسية والعلاقات الدولية الحديثة، وزادتها بركات العولمة وضوحا وأهمية؛ لأن الشركات متعددة الجنسيات، أضحت رقما في المعادلة السياسية أوضح من أرقام الأخلاق والقيم والإنسانية، والعالم اليوم، لم يعد متباعدا، جغرافيا أو مصلحيا أو تواصليا، وإنما كاد أن يصبح بيتا كما قال الشيخ العلافة محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله –وليس قرية فحسب-، وذلك يفرض على من يشتغل بهموم البناء الوطني ألا يهمل هذا الجانب.

صحيح أن الأساس هو الأركان الثلاثة المذكورة آنفا، التي تضمن التماسك في المجتمع، والالتفاف حول الثوابت ومساحات الهوية، ولكن ذلك لا يستطيع أن يحقق ما يهدف إليه المجتمع، إن لم يكن مدعوما بقوى ثابتة، مادية ومعنوية، قادرة على تنشيط الصديق واستثمار طاقته وتحييد الخصم والعدو لأمن شره.

وللقوة أشكال، قد تكون فكرة جديدة في واقع متأزم..، أو مال يدوّر في مؤسسات اقتصادية ناجحة..، ويدرُّ على مؤسسات إعلامية خادمة للمشروع المراد إنجاحه.

وبحكم أن القوة ليست شكلا واحد، أو مستوى واحدا، فكان ينبغي الاهتمام بتوليد أفكار لحفظ التوازن بين القوى المؤثرة، سواء على المستوى الوطني أو المستوى الدولي؛ لأن جوهر المعركة، الذي يبدو في الساحة الوطنية، في بلادنا الجزائر أو غيرها، وكأنه هو الأساس، ليس هو الحقيقة، وإنما هو عرض من أعراضها، وإنما الصراع الحقيقي هو مع قوى الغرب الإستعماري؛ لأن شعوبنا تريد الآن تمارس حقها في الحياة والحرية والعدل والكرامة، والغرب الاستعماري لا يريد لنا من ذلك إلا بالقدر الذي يخدم مصالحه، ولا يسمح لنظمنا السياسية بتحقيق شيء من ذلك إلا بالقدر الذي يحقق له ما يريد، وعندما تبالغ هذه الأنظمة في قمع شعوبها ويصبح هذا القمع يهدد مصالح الغرب، فإن الغرب مستعد للإستغناء عنها في أية لحظة..؛ لأنه لا يريد الفوضى وإنما يريد الاستقرار، ويلجأ للفوضى عندما يرى فيها محققا لمصالحه.

ذلك هو ميزان القوة الذي لا يسحن بالطبقة السياسية إهماله، سواء كانت في السلطة أو المعارضة.                     

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • الحكيم الجزائري

    تحية خالصة لك يا أخي التهامي مجوري كلامك في المستوى ولكنه يصبح بدون معنى إذا لم يكن مربوطا بالإستمرارية و المضي في مشروع مدروس وفق تخطيط بعيد المدى فلايعقل أن يغيب السياسي لفترات طويلة تكاد أن تجعله في طي النسيان ليظهر فجأةلما يكون هناك مشروع أو إنتخابات فهذا ليس من أخلاق السياسي للأسف يا أخي لقد تميعت الطبقة السياسية في الجزائر سواء من في السلطة أو المعارضة إلا من رحم ربك و لهذا أقترح على الأحزاب الجادة أن تخرج عن النضال التقليدي و تذهب حتى لإنشاء مراكز للبحث العلمي و إتخاذ القرار وتقيم الأوضاع