-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف نقرأ التاريخ (5)؟

التهامي مجوري
  • 1422
  • 0
كيف نقرأ التاريخ (5)؟

كتبت منذ مدة سلسلة مقالات في هذا الموضوع ثم توقفت، ووحدت في أرشيفي هذا الموضوع غير مكتمل، وأغلب الظن أنه الموضوع الخامس –ولذلك وضعت له رقم 5- المكمل لأطراف الموضوع، وهو الطرف الأصعب فيه، وهو قراءة الحدث بعيدا عن ملابساته، إذ كثيرا ما يضل الناس بسبب ذلك.

هل يقرأ التاريخ بصيغة الحاضر؟ وبعبارة أخرى هل يمكن أن نتحدث عن واقعة أو موضوع كان قبل خمسين سنة، ونتعامل معه وكأنه وقع اليوم أو البارحة؟

يطلق بين الفينة والأخرى أن فلانا من أبناء الحركة الوطنية خائنا لرأي رآه أو لموقف سجله أو لحركة قام بها، مثل المقال الذي كتبه فرحات عباس في سنة 1936 يبحث فيه عن الجزائر ولم يجدها حتى في المقابر، وما كتبه ابن باديس من مقالات توحي بأنه مع فرنسا ويساندها ويساعدها في الارتقاء بالشعب الجزائري، وفي موقف مصالي من اندلاع الثورة سنة 1954؛ بل والذين أصدرت الثورة في حقهم أحكاما قاسية أيضا، ومنها الإعدام وقد أعدم بالفعل بعض القياديين… وإلى ما هنالك من الأحداث التاريخية التي لا يمكن فهمها إلى بالرجوع إلى أيامها التي وقعت فيها.
ذلك أن كل حدث -موقف رأي حركة- له ملابساته وتفاصيله وقائعه التي هي جزء منه، ولا يمكن فهم الحدث واتخاذ الموقف منه سلبا وإيجابا إلا بالإلمام بتفاصيل ذلك الموضوع؛ بل إن الأحكام القاسية التي صدرت ونفذت في بعض القيادات الثورية في الجزائر ليست نهاية المطاف، وإنما تعذر الثورة في صرامتها وقسوتها لأنها ثورة ليس لها من الامكانات التي تسمح لها بفعل غير ما فعلت؛ لأن المهم في منطق الثورة هو حمايتها من أدنى شبهة ولو بارتكاب الأخطاء الأقل ضررا، مثل تنفيذ حكم الإعدام بالشيهة على فرد او أفراد. مع الحفاظ على الحقيقة المتعلقة بحق من وقع فيه الخطأ، وهي الحقيقة التي ينبغي أن يكشف عنها التاريخ.
إن الكلام عن التاريخ وأحداثه لقراءته قراءة صحيحة، يقتضي الانتقال إلى مكان الحدث وزمانه وشخوصه، إذ أن كل حدث هو ابن زمانه ومكانه وأهله، ولا يمكن قراءة معطيات زمن معين ومكان معين وأشخاص معينين، في زمان آخر ومكان آخر ومِنْ قِبَلِ أُناس آخرين.
فعندما نقول إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مثلا أنها لم تكن تطالب بالإستقلال، أو أن رجال الحركة والوطنية لم يكونوا متعلمين وهم أقرب إلى الأمية من العلم، وأن المتعلمين منهم كانوا من دعاة الاندماج… فهل نحن جادون في وصفنا؟ وهل نحن صادقون في أحكامنا هذه؟ وهلا كلفنا انفسنا وانتقلنا إلى ذلك الزمن وأولئك الرجال حتى نفهم الحدث كما وقع وكما هو؟ لم نكلف انفسنا بكل أسف أقل من ذلك، وإنما توارثنا تهما نلوكها ولا ندري ما حقيقتها؛ بل تحولت تلك التهم مع الأيام إلى أحكام قيمية غير قابلة للزحزحة.
إن لكل حدث قصة ولكل قصة محيطها ولكل محيط ظروفه وإكراهاته، وفهم ذلك على حقيقته يقتضي الانتقال إليه زمانا ومكانا وأحوالا… وإلا ضاعت الحقيقة
ولم نكتف بأننا لم نفعل؛ بل لم نشعر بضرورة ذلك وأثره على تاريخنا، وإنما انطلقنا من مصطلحات الثلاثة وهي –الاصلاح، الاندماج، الثورية-، وسجلنا في مخيلاتنا أن كل موقف من هذه الجهات الثلاث يحكم بالإعدام على غيره من المواقف، فالحركة الوطنية الثورية، في رأي غيرها لا يمثل رجالها إلا كمشة من الأميين الذين لا يعرفون عن الحضارة والتقدم شيئا، أما الإندماجبون فهم ليسوا أكثر من شرذمة من القابلين بالاستعمار…، أما الإصلاحيون فهم لا يختلفون عن الاندماجيين!!
فما مدى صحة وصدق وشرعية مواقف هذه الفئات في ميزان التاريخ والعلم؟
فجمعية العلماء حقيقة لم تطالب بالإستقلال؛ لأنها تعتقد أن الاستقلال يُعْمل له ولا يطلب من أحد، والذي يملكه لا يسلم فيه بسهولة، ولذلك انتهجت نهجا في العمل على الاستقلال عبر التربية والتعليم والإصلاح؛ لأن الاستقلال بطبيعته يتحقق كنتيجة وليس كمقدمة، وكما يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي “محال أن يتحرر بدن يحمل عقلا عبدا”، إذ عندما يتعلم المرء يشعر ببعد الشقة بينه وبين الفرنسي الغازي، فيتحقق الشعور بالاستقلال، وينجز عبر وسائله المشروعة بعد ذلك، أما فكرة الاستقلال واهميتها في تركيبة الإنسان فيقول الشيخ عبد الحميد ابن باديس “الاستقلال تحن إليه حتى البهيمة”، ما بالك بالإنسان.
وبعد هذا العمق في الطرح هل يجوز أن نقول إن جمعية العلماء لم تكن تطالب بالإستقلال؟ أو انها لا تريده وتعمل ضده؟ أو أنها تساعد فرنسا على البقاء!!
وكذلك بالنسبة لأبناء الحركة الوطنية الذين كانت مستوياتهم التعليمية في غالبيتهم متواضعة، والذين كانوا من حملة العبء السياسي للأمة، وكانوا ممن يركزون على مصطلح الاستقلال… صحيح أن مستوياتهم التعليمية لم تكن عالية، ولكنهم سياسيا كانوا في أعلى المستويات النضالية، ابتداء من المطالبة بالاستقلال، رغم أن هذه المطالبة لم تكن موضوعية؛ لأنها بمثابة طلب السجين لمفتاح الزنزانة من السجان وهذا غير معقول، ولكن هذا المصطلح مجرد التلفظ به كان له بعده السياسي، سواء على الرأي العام الدولي، او على مستوى الداخل بالنسبة للناس الذين لم يتعلموا، فيسكنهم المصطلح ويستقر في أذهانهم كقضية مبدئية… الاستقلال يعني نحن لسنا فرنسا والجزائر ليست فرنسا، وهذا كان له أثر كبير في صناعة الرأي العام سياسيا.
أما بالنسبة للمطالبين بالاندماج، فكانوا أغلبهم من النخبة المثقفة وممن تحصلوا على شهادات وكانوا على مستوى تعليمي معتبر، فمطالبتهم بالاندماج اعتقادا منهم أن فرنسا متفوقة تفوق الغرب الذي تجاوزنا بقرون، ونحن في مستوى من التخلف لا نستطيع النهوض بإمكانياتنا الخاصة، ونحن في وضع دولي معقد، حيث أن الاستعمار الذي يهيمن على أراضينا استولى عليها بتوافق دولي، وليس مجرد دولة احتلتنا وكفى، وبلغة التاريخ ضرورة مرحلة، ياتي اليوم الذي سنتخلص من هذا الواقع، ولكن بإمكانات لا بد من اكتسابها بفعل ما!!
والإندماجيون بمنطق التحرر والخصوصيات الثقافية التي نتميز بها عن الغرب وعن فرنسا بالذات موقفهم هو الأضعف، ولكن وضع هذا الطرح في سياقه التاريخي هو عبارة عن قراءة موضوعية للواقع تعبر عن إرادة صادقة في النهوض بالمجتمع ولكنها قراءة في محصلتها غير موفقة؛ لأنها لم تفرق بين الغالب بالقوة والمتفوق بالعلم والثقافة، ففرنسا الغالبة لنا بالقوة، غير فرنسا المتفوقة بالعلم والثقافة والحضارة، والاقتداء بها فيما تفوقت فيه لا يؤدي بالضرورة إلى القضاء على مظالمها التي فرضتها بالقوة، ومن ثم فإن الاندماج لا يؤدي للإستقلال حتما، وإنما يؤدي إلى الذوبان، وهذا ما انتبه إليه عباس فرحات عندما غير من وجهته بعد المؤتمر الإسلامي 1936، عندما تبنى فكرة الاندماج في إطار المحافظة على خصوصية الأحوال الشخصية التي تحفظ للأسرة الجزائرية خصوصياتها الإسلامية.
إن هذه القراءة الإيجابية لأجنحة الحركة الوطنية على ما بينها من اختلاف شكلي وفي المضامين أيضا، هي التي اعترفت بفضل كل طرف واستفادت منه، بحيث لم يمر على اندلاع الثورة عام واحد حتى انطلقت في استثمار جميع الجهود الإيجابية، فتحول داعية الاندماج إلى قائد للثورة موظفا قدراته السياسية في تحقيق ما اتفق عليه الجميع؛ بل إن الدور الذي لعبه رجال جمعية العلماء كان دورا قياديا بامتياز، فلو لم يكن رجل مثل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في المشرق كيف يكون واقع الثورة؟
على أن هؤلاء المناضلين في القضية الوطنية، على ما بينهم من اختلاف في التشخيص للموضوع ومسالكه، مناضلون كلهم بخطئهم وصوابهم، وليس لأحد ان يزايد عليهم في حبهم للبلاد والعباد…
على أن الثورة عندما اندلعت كانت مغامرة وقد صرح بذلك بوضياف وبن مهيدي، سواء بسبب التشرذم الذي تشهده البلاد وطبقتها السياسية يومها، أو بسبب أن القيادة التي أطلقت المبادرة مجموعة من الشباب الذين تمردوا على الواقع وأشعلوها ولا يعرفهم الناس إلا في الأطر التنظيمية السرية الضيقة مثل المنظمة الخاصة أو اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وبسبب عدم علم الكثير ممن كانوا في قيادات التوجه الثوري من حزب والشعب وحركة الانتصار…
وعندما اندلعت الثورة لم تتعامل معها الاتجاهات المذكورة كما كانت تتعامل مع الاتجاهات المخالفة لها، وإنما تعاملت معها كواقع جديد يفرض الشعور بالمسؤولية حيال ما يقع، وليس مجرد اجتهاد يمكن التحرر منه في لحظة من اللحظات، وهنا ظهرت عبقرية عبان رمضان في العملية الذي جند الجميع في خدمة القضية، فلم يتعامل مع الواقع السياسي أن هذا تيار وذاك تيار… وإنما تعامل مع الجميع وفق متطلبات الواجب الوطني… ولو لا اندفاعه وتجاهله لبعض القيادات التي قد تكون دونه في المستوى السياسي النضالي، لكان للوضع شأن آخر فيما يتعلق بشخصه الذي لا يزال محل مد وجزر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!