-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف نقرأ الحدث؟

التهامي مجوري
  • 620
  • 0
كيف نقرأ الحدث؟

نقصد بالحدث ما وقع بالفعل من وقائع وأحداث، وليس المستنتَج منها أو المحتمَل. أما قراءته فهي ما يصدر عن الناس من تفاعل وانفعالات ناتجة عن ذلك الحدث.

وهذه القراءات التي تصدر عن الناس للأحداث، ليست كلها ذات قيمة، بسبب ما يعتريها من ذاتيات وردود أفعال متسرعة أحيانا، وبطيئة وبذيئة أحيانا أخرى، ومتعمدة التوجيه لها في أحيان غيرها.

والإعلامي يقرأ الحدث بالتركيز على صياغة الخبر كما وقع ابتداءً؛ لأن مَهمَّته هي البحث عن الخبر وإيصاله إلى الناس وتمكينهم منه، وربما أضاف إلى ذلك قراءته له بربطه بما سبق من أحداث جارية في نفس الوقت؛ لأن الحدث قد يكون سياسيا وله علاقة بأحداث أخرى سياسية آنية وتاريخية وأخرى اجتماعية وثقافية وأمنية… إلخ، أما قراءته في كتابة المقال والعمود وغير ذلك، فذلك يدخل في الرأي وليس في صياغة الخبر. وإدراج صياغة الخبر في صنف القراءة؛ لأن الصياغة تتأثَّر بالذاتية وإن لم يقصدها صاحبُها، أما الحياد الذي يتكلم عنه رجال الإعلام فالمقصود به الحرص على إيصال الخبر بأقصى ما يمكن من الحيادية، وذلك صعب جدا.

كما يقرأ رجل الأمن الحدث كمعلومة يؤرشفها؛ لأن مصلحة الاستعلامات في الأمن العامّ تقوم بنفس العمل الذي يقوم به الإعلامي، ولكن تتعامل معه كمعلومة وليس كخبر؛ لأن قراءته ستكون قراءة أمنية، تربط الحدث بالجانب الأمني للبلاد، وليست قراءة إعلامية لإعلام الناس بما وقع وكفى، وإنما تقرؤه بنيّة احتمال الإدانة لشخص أو جهة أو مؤسسة…

كما يقرؤه السياسي فيفسّر به الأحداث السياسية، ويوظفه في معاركه السياسية مع خصومه في الساحة سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة، ولذلك نجد أن الحدث الواحد قد تكون له أكثر من قراءة في المجال السياسي؛ لأن التوظيف السياسي توظيفٌ تنافسيٌّ بين متنافسين، وليس مجرد البحث عن الحقيقة ومعرفتها، وذلك لا يعني بالضرورة أن السياسيين يتعمَّدون الكذب أو الخداع في أرائهم ومواقفهم وما إلى ذلك من الظنون المختلفة، وإنما هو توظيفٌ واستثمار في المجال السياسي بغرض التأثير على الخصم والمناوئ.

يحكي المرحوم عباس فرحات عن مرحلة نضاله قبل الاستقلال أن مصالي الحاج قال له ذات يوم إن “فرنسا لن تعطيك شيئا”، فعقّب عن ذلك بقوله “لقد كان محقا” il avais raison… ولم يقل “كنتُ مخطئا”! لأن قوله” كان محقا” حقيقة تاريخية، أما “كنتُ مخطئا” ففيها إدانة للذات سياسيا. وفي زمن الفتنة الكبرى التي قُتل فيها عمار بن ياسر رضي الله عنه، قيل لمعاوية بن أبي سفيان أو عمرو بن العاص رضي الله عنهما، إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمار “تقتلك الفئة الباغية”، بغرض إدانته لأن قتلة عمار من فئة معاوية وعمرو بن العاص، فقال “إن الذي أخرجه من بيته هو من قتله وليس نحن”.. فالواقعة وقعت والقاتل بلا شك معروف أيضا وهو محسوب على جهة، ولكن السبب الذي أدى به إلى أن يًقتل هو الخيار الذي اختاره وهذا لم يدعه إليه من قتله!

أما من يكون خارج المسؤولية في قطاع من تلك القطاعات التي تفرض عليه صيغة من صيغ القراءات الوظيفية المعروفة، ففي الغالب تكون قراءاتهم عبارة عن أحكام على الأطراف التي كانت سببا في الحدث، إن سلبا وإن إيجابا.

والضابط الذي ينبغي مراعاته في قراءة الحدث قراءة سليمة مثمرة، كمعيار يحتذى في قراءة الحدث من جهة وتقييم القراءات له من جهة أخرى، هو أن يقرأ على ضوء مآلاته بقطع النظر عن الأسباب المؤدية إليه، التي قد يكون لها الأثر هي الأخرى، ولكن الأولى بالاعتبار هو المآل؛ لأن العبرة بالنهاية ليس البداية.

ذلك أن الحدث بعد وقوعه يصبح تاريخا يُروى ليفهمه الناس ويستفيدون منه لا ليحاكموه، ومن ثمَّ فهو محصلة لمقدِّمات أخرى وقعت وأضحت من التاريخ أيضا، لا سلطان لنا عليها، بما في ذلك الأحداث التي كان لنا عليها سلطانٌ قبل وقوعها، ومن الخطأ قراءته وكأنه مستقبلٌ نتحكم في توجهاته، فنلوم هذا على فعل ونعاتب آخر لأنه قال أو فعل، ونزكِّي ذاك لأنه كان إيجابيا ونسانده ونساند رأيه وموقفه ونؤيده… في حين أن هذا الحدث الذي وقع أصبح تاريخا، غير قابل للتعديل واللوم والعتاب والتزكية، ولا معنى لكل ذلك إلا التأثير على الطبيعة البشرية سلبا وإيجابا فيما بين الناس من خلافات طبيعية في ذلك.

إن الحدث الذي أصبح تاريخا بمجرد وقوعه، لا يصلح معه التأسُّف والتأفُّف واللوم والعتاب وإلى ما هنالك، مما لا يقدّم ولا يؤخّر من مفعول الحدث شيئا، وإنما يتحول إلى منتوج باعث على فهم الوجود بمعطيات جديدة؛ لأن الحدث الذي أفضى إلى نجاحات قد كشف للإنسانية عن جديد في الموضوع، ومن ثم فإن على كل مهتم بقراءة الأحداث أن يفهم هذا الحدث فهما جيدا لينطلق في إضافة جديدة، وليس ليفرح بالمنتوج ويذهب يثني على من صنع الحدث فينظّم الاحتفالات والاحتفاءات به وبما أنتج. وإذا أفضى إلى إخفاقات فإنه يكشف كذلك عن مواطن ضعف وإختلالات يتعين تجاوزها.

وفي النهاية لا تكون قراءة الحدث سليمة إلا عندما تفضي بنا إلى نتيجة مثمرة بعيدة كل البعد عن الإدانات ولوم الآخرين وعتابهم، إلا بمقدار يقدَّر بالملح في الطعام كما يقال، وبعيدة أيضا عن جلد الذات، وجلد المخالفين وإدانتهم والحكم عليهم.

ذلك أن  كل حدث يقع، له أكثر من طرف يتحكم فيه، وأكثر من وعاء يسكن فيه، واكثر من معنى من المعاني المحيطة به، تؤثر فيه وتوجهه الوجهات المختلفة.

الحدث يكون سياسيا مثلا، وللسياسة جوُّها التنافسي والصراعي وربما التآمري، ومن ثم قد يكون الحدث واحدا، ولكن العناصر الفاعلة فيه كثيرة جدا، قد لا تبدو معالهما إلا بالخبرة الممتدة والتجربة الواسعة، وكذلك الحدث الإجتماعي فأطرافه كثيرة، الإدارة والمجتمع من جهة، والإدارة متعددة الأطراف، والمجتمع متعدد الأطراف، وكل طرف من هذه الأطراف له تأثيره على توجُّه وتوجيه الحدث، وقل مثل ذلك في جميع الأحداث، علمية كانت أو اقتصادية أو ثقافية أو بيئية… والسر اختلاف القراءات في الأحداث وتنوعها أنها تُبنى عليها مواقف وآراء وإدانات، ولكن وضوح تلك القراءات لا يكون بنفس المستوى، وأظهر ما يكون في الأحداث السياسية والإجتماعية، لكونها لها علاقة مباشرة بجميع الناس.

على أن الأحداث والأطراف والجهات الفاعلة في الأحداث، قد لا يكون لنا سلطانٌ عليها أصلا، إذ تكون نتيجة تفاعلات معينة لا تعبّر عن اختيارات الأفراد والمجموعات، مثل الأزمات السياسية والاجتماعية التي تتعدد فيها الأطراف أو تنشأ عن سوء التسيير، أو تكون بسبب الكوارث الطبيعية والأوبئة التي تطرأ على البشر.

وكل حدث يمثل واقعة معينة، متعلقة بفرد أو مجموعة، لها علاقة بأفكار هذا الفرد أو هذه المجموعة، فمثل هذا الحدث يمكن قراءته بسهولة، لكن هل لذلك علاقة بجهة أو طرف آخر؟ وهل للحدث علاقة بما هو جاري من أمور داخلية وخارجية؟ وهل لمن لأفكاره علاقة بالحدث له غاية يمكن ربطها بالحدث؟ كل هذه الأمور تعدّ من حواشي الحدث التي لها علاقة بقراءته. والقراءة المطلوبة والتي ينبغي أن يكون عليها القارئ تبدو لي صعبة ولكنها ليست مستحيلة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!