-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف يُقوَّم متعلّْمونا؟

كيف يُقوَّم متعلّْمونا؟

بسبب الممارسات المنحرفة التي جردته من روحه البيداغوجية الشاملة وأفرغته من محتواه، عُدّ التقويم التربوي غاية منشودة لذاتها. وفي حقيقة الأمر، فإنه يشكّل في صلب أصله وسيلة استكشافية مثلى لا يمكن التغاضي عنها، أو إهمالها، أو التقليل من شأنها. ونظرا لأهميته، فإنه كثيرا ما يوصف بـ”صمام الأمان” الذي يجنب العملية التعليمية/ التعليمية الابتعاد عن جادة الصواب بعيدا عن الأهداف التي قيدت لها.

وأمام “التعليم البنكي” المزري الذي يسيطر على النشاطات الفصلية ويحضر بقدر أكبر في مقار “الدروس اللصوصية” والمعادي لفن التعلم، انخسفت درجة العناية بالتقويم التربوي وتضاءلت إلى حد لا يحتمل.

يلازم التقويم التربوي عملية التدريس في القسم، ولا يفارقها في أي مرحلة من مراحلها. ومن يرى خلاف ذلك، فإنه يقف على حرف حفرة الاعتقاد الباطل. وهو جزء أصيل مدمج إدماجا كليا في الأداء الفصلي من بدايته حتى نهايته. والتقويم التربوي ليس مجرد عمل يقوم به المعلمون والأساتذة لمنح علامات إلى المتعلمين يتحدد على إثرها نجاحُهم أو رسوبهم، ويسجَّل به تقدمهم أو تخلفهم عن بقية زملائهم. وإنما هو الكاشف الوحيد للنقائص التي تسكن الفعل التعليمي والفاضح للمعوقات التي تجعل مردوده ضحلا أو قليلا. وبفضله تشخَّص العيوب والمساوئ ذات الأثر السلبي على مخرجات العملية التكوينية برمّـتها.

يفيد التقويم التربوي في استدراك ما يشوب تعلم المتعلمين من أخطاء والكشف عما يعتري تحصيلهم من  شوائب. وبهذه الصفة، فإنه يفيد المتعلم والمعلم على حد سواء؛ لأنه يضع محاولات المعلمين في الأقسام وما يبذله المتعلمون من جهد بغية الاكتساب المعرفي في كفة ميزان الحساب والتقدير. وقد يتعدى أثره إلى أطراف أخرى كمضامين المناهج وطرائق التعلم وغيرهما، ولذا يعرّفه أحدهم -مع بعض التعديل- كما يلي: (التقويم التربوي هو عملية مَنهجية مُنظّمة تهدف إلى جمع البيانات وتحليلها بغرض تحديد درجة تحقُّق الكفاءات التربوية واتخاذ القرارات بشأنها، من أجل معالجة جوانب القصور وتوفير النّمو السّليم للفرد أو المدرسة عن طريق إعادة تشكيل البيئة التربوية).

تصادف أخطاء متنوعة في تطبيق عملية التقويم التربوي في الامتحانات المدرسية وفي نظيراتها الرسمية. والأسوأ أن بعض من يتصدُّون لموضوع التقويم التربوي من خلال اقتراح الفروض والاختبارات يرفضون النقاش والحوار، ولا يقبلون تبادل الآراء وتنازع الأفكار وتلاقحها. ويصدّون صدا منيعا عن كل توجيه وجيه، وينفّرون من التعامل مع الآخرين بذهن منفتح حتى يحصل التخفيف من مساوئ عملية التقويم التربوي نفسها.

انسلخ التقويم التربوي من المعايير التي تجمع له مواصفات الدقة والضبط والنجاح المأمولة بسبب أن نظرة المعلّمين والأساتذة لم تعد تمنحه درجة الاهتمام المستحقَّة التي تنطلق من لحظة الشروع في إعداده حتى الوصول إلى قراءة النتائج المحصَّل عليها قراءة موضوعية وتحليلها وفرز غثّها من سمينها، ورديئها من حسنها. وتسخير البيانات المتوصل إليها في تنظيم وضبط وتعديل العملية التعليمية برمتها كمراجعة الكفاءات المسطرة وتكييفها بين الحين والحين.

كاد التقويم التربوي أن يجرَّد تجريدا تاما من قيمته التربوية بسبب السطوة الإدارية التي سرقت منه بريق مزاياه، ولم يبق إلا أن يستبدل اسمه باسم: “التقويم الإداري”. وأصبح الشغل الشاغل لمديري المؤسسات التعليمية هو ضبط رزنامة الفروض والاختبارات لإجرائها في أوقاتها المحددة، وإلزام المعلمين والأساتذة باحترام مواعيد تسليم العلامات لصبِّها في الكشوف في أوانها قبل انعقاد مجالس الأقسام. ولا يكلف المديرون أنفسهم الإطلاع على العلامات المستلمة، ووضعها تحت مجهر الفحص والفرز، ومساءلة المعلمين والأساتذة عما تحقق وما لم يتحقق، وعقد جلسات مناقشة للبحث جماعيًّا عن أسباب التردِّي والإخفاق والفشل والنظر في صعوبات التعلم التي تعترض طريق فئة المتخلفين، والتواصل معهم لمساعدتهم بعد التعرف على ظروفهم المعيشية خارج المدرسة، واستدعاء أوليائهم لتنبيههم قبل فوات الأوان، ورسم خطة علاجية ترمي إلى الأخذ بأيديهم أخذا متدرِّجا يراعي قدرات كل واحد منهم، والسعي الحثيث إلى إنقاذهم حتى لا يكونوا أعدادا تضاف إلى كتلة من يشملهم الهدر “التسرُّب” المدرسي الفتاك.

إن المعلم الذي لا يملك مؤهلات المعلم المجتهِد في عمله مع تلاميذه لا يُنتظر منه بناء تقويمات تربوية على درجة عالية من الصواب والسداد والعناية التامة؛ فالمعلم الغارق في وحل التلقين المنبوذ والطرق التدريسية العقيمة التي لا تركّز على تنمية قدرات المتعلمين وتقويتها، ولا تجاري مبادئ التدريس وأسسها استنادا إلى المقاربة بالكفاءات، إن مثل هذا المعلم لا يُنتظر منها أن يقترح عمليات تقويمية تنفع في قياس مدى التحكُّم في الكفاءات المسطَّرة في المناهج والخاضعة للقياس.

يتطلب إنشاء تقويمات تربوية ترمي إلى قياس مستوى سيطرة المتعلمين على الكفاءات المكتسَبة في كل المواد التعليمية، جهدا إضافيا من طرف المعلم. ولكن التهاون والإهمال يجعلان الكثير من المعلمين يتخلون عن هذا الواجب المعتبر، ويكتفون بالسَّهل المباح. ومن جانب آخر، فإنَّ المفتِّشين لا يتابعون الفروض والاختبارات المقترحة من طرف المعلمين والأساتذة، ولا يفتحون عيونهم للتقيُّد الدقيق بالتوجيهات المنصوص عليها في المناهج المقررة والمتعلقة بالتقويم. وزيادة على ذلك، لا يتعرَّضون في العمليات التكوينية إلى موضوع التقويم التربوي من حيث بناء المواضيع وتصحيح إجابات المتعلمين وتحليل النتائج المحصل عليها والنظر في أسباب التفوق أو الإخفاق الفردي أو الجماعي.

إنّ المعلم الغارق في وحل التلقين المنبوذ والطرق التدريسية العقيمة التي لا تركّز على تنمية قدرات المتعلمين وتقويتها، ولا تجاري مبادئ التدريس وأسسها استنادا إلى المقاربة بالكفاءات، إن مثل هذا المعلم لا يُنتظر منها أن يقترح عمليات تقويمية تنفع في قياس مدى التحكُّم في الكفاءات المسطَّرة في المناهج والخاضعة للقياس.

لا يقـوَّم المتعلم إلا في المعارف العلمية الواردة في المناهج المقرَّرة، ومن زاد عليها قيد أنملة أو مقدار نقير أو فتيل فقد ظلم!؟. ويعتقد معلمون وأساتذة كثر أن الكتاب المدرسي لمادة تعليمية ما هو إلا نسخة تنفيذية لمنهاج المادة ذاتها، وصِنوٌ مطابق له. ولا يدركون أن الكتاب المدرسي يمكن أن يتضمن معلومات إضافية عن موضوع معين بهدف إشباع فضول المتعلمين المستزيدين. بل إنّ هناك من المعلمين من يُثقلون في دروسهم كواهل المتعلمين بمعلومات إضافية غير مقررة، وتفوق مستواهم الاكتسابي في أحايين كثيرة ظنًّا منهم أن “اجتهادهم” هذا يخدم المتعلم، ويوسِّع مداركه، ويرفع من ذخيرته المعرفية.

تعدّ السندات، وهي الوثائق المرافقة لمواضيع الفروض والاختبارات كالنصوص الأدبية والصُّور والخرائط والرسومات والتبيانات والمنحنيات البيانية والجداول… من بين الموارد الخارجية التي توضع تحت تصرف المتعلمين والمعينة لهم على بلورة إجابات وحلول ملائمة للمشكلات المطروحة عليهم. ولا يمكن لهذه السندات أن تؤدّي الدور المنوط بها إلا إذا جرى انتقاؤُها انتقاء نقيا وصائبا. وكلما علِقت بهذه السندات تعقيداتٌ ولفّها غموض إلا وصعّبت مَهمّات المتعلمين، وأغلقت أمامهم طرق الاهتداء لبلوغ الحلول المناسبة. وكثيرا ما تُرفق هذه السندات من طرف مقترحي الفروض والاختبارات من دون غربلة وتمحيص ومراجعة. وأما طريقة عرضها فتزيد من انخفاض مردودها في المساعدة إن قدِّمت بطريقة عشوائية وفوضوية.

لا تنفع الأسئلة المباشرة المحمَّلة بالتعليمات التقويمية التقليدية في تقويم الكفاءات؛ لأن الإجابة عنها لا تتخطى عتبات استرجاع المعارف المخزَّنة في الذاكرة والمحفوظة عن ظهر قلب، ومن ثَمَّ صبّها صبًّا أعمى على أوراق الإجابة. وأما السؤال المفيد في تقويم الكفاءات فهو ذلك السؤال الذي يحمل المتعلم الممتحَن على اختيار من بين ذخائر معارفه المكتسبة تلك التي يمكن تعبئتها واستثمارها من أجل صياغة وبلورة حل سديد وموافق للصواب ومُقنع للمشكلة المطروحة التي تشبه المشكلة المعالَجة في الدرس ولكن تختلف عنها قليلا من حيث درجة التعقيد ومن جانب منحى السياق.

لا تُقبل الإجابة عن الوضعية الإدماجية إلا إذا جاءت في صورة فقرة تركيبية مرتبة ومحكمة البناء، وتدلّ على قدرة المتعلم على التحكم في الإنتاج الكتابي وعلى توظيف المفاهيم العلمية من غير إطالة مملة أو اقتضاب مخلّ، مع خلوِّها من التكرار المفسد والخلط المنبوذ. وما الإدماج سوى نقطة التقاء عدة معارف مقررة تجمع بينها علاقة تقارب ووشيجة التحام. ولمَّا توصف الوضعية الإدماجية بأنها مركَّبة، فلا يُقصد بهذا الوصف إطلاقا أنها معقدة أو شديدة التعقيد، وإنما يراد بذلك أنها متعدِّدة العناصر المتداخلة إلى حدٍّ معيَّن. والوضعية الإدماجية هي وحدها من تمنح التعلُّمات معنى عميقا ودلالة كبرى، وتنير أمام كل متعلم طريق الاستفادة الفعلية من محتواها في حياته الخاصة وفي حياته الاجتماعية العامة.

التقويمُ التربوي هو جزءٌ حيوي من أجزاء عملية التعليم والتعلم، ولذا يجب أن يخطط له تخطيطا محكما يُبتعد به عن الاستعجال والارتجال والسطحية، وأن يُمنح له الوقت الكافي لإعداد وسائله من فروض واختبارات، واستكمال مراحله كلها حتى يؤتي ثماره ناضجة يانعة. ولكن الملاحظات الميدانية الجريئة تكشف، في كل مرة، أن متعلمينا لا يقوَّمون بأساليب مفيدة وطرائق سليمة من جرّاء القصور الفادح والعيوب الكثيرة التي تتأبَّطها الفروض والامتحانات المقترَحة عليهم، والتي يقف عليها كل من ينظر بعين ناقدة إلى مضامينها. ولا يمكن النهوضُ بالتقويم التربوي إلا بمضاعفة العناية به من قبل وزارة التربية. واعتقد أن التفكير في إنشاء بنوك للتقويمات المختلفة في كل المواد التعليمية في المؤسسات التعليمية، وتزويد المعلمين والأساتذة بنماذج من الفروض والامتحانات مبنية بناءً بيداغوجيًّا صحيحًا مع حلولها للاستعانة بها، وحث المفتشين على تكوين من يقعون تحت إشرافهم ومتابعة ما يقترحونه من تقويمات بالنقد والتوجيه لتخليصها من مثالبها، أعتقد أن هذه الاقتراحات المتواضعة كفيلة بأن ترفع، ولو نسبيا، من شأنه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!