الرأي

لا تعبثوا بما بقي من مصداقية البكالوريا!

لاشكّ أنّ شهادة البكالوريا في الجزائر هي محصّلة النظام التعليمي العامّ بكل أطواره، لتتويج مسار التلميذ بالتأهُّل لدخول الجامعة أو الانتقال إلى الحياة المهنية مباشرة، ولذلك احتلّت منذ الاستقلال موقع الامتحان الرسمي الأكثر أهمية رسميّا وشعبيّا، مُحافظًا قدر المستطاع على مكانته البيداغوجية، برغم ما اعترى المنظومة التربوية من اختلالات وتجارب إصلاحيّة، وظلّت رمزيتُه قائمة في أحلك الظروف السياسية والأمنية للبلاد.

لكن الملاحظ بإجماع المراقبين المختصّين وشركاء القطاع هو طغيان النزعة السياسويّة، ناهيك عن الخلفيات الأيديولوجية، في التعاطي مع الإصلاح التربوي خلال العقدين الأخيرين، وقد يكون الهدف أحيانا مجرد تسجيل بصمة في مسيرة القطاع ولو كانت ملطخة، أو إدّعاء التطوير، بتقارير مغلوطة أمام السلطات العليا، ولو بالتقدُّم نحو الخلف.

لقد دفعت بلادُنا ثمن تلك الإصلاحات العرجاء والمسيّسة، بشعار “النجاح للجميع إلا من أبى”، بدخول ملايين الطلاب إلى الجامعات، لكنها مؤشراتٌ كميّة بعيدة تمامًا عن حقيقة النوعيّة، جعلت مؤسَّسات التعليم العالي تتخبّط في مشاكل مُرهِقة من الاكتظاظ وضعف مستوى التحصيل العلمي ونقص التأطير النَّظري والتطبيقي.

وبعد ما صارت نسبة العبور من الطور الثانوي إلى الجامعة تحددها الوصاية سلفًا، وبأرقام معلنة أمام الرأي العام تحت غطاء التوقعات، ها هي وزارة التربية الوطنية تتوجّه، ولو عن غير قصد، إلى العبث بما بقي من مصداقية البكالوريا في الجزائر.

إنّ ما ورد بهذا الصدد على لسان المفتش المركزي، بلعور بوعلام، في غاية الخطورة والحساسيّة، فقد كشف الرجل عن “دراسة خيار جعل الانتقال إلى الجامعة بحساب المعدّل العام السنوي زائد معدل البكالوريا”.

ربّما يقول قائل إنّ مثل هذا الخيار موضوعيٌّ ومنصف في حق تلاميذ مجتهدين قد لا تسعفهم ظروفُهم الخاصّة أو طوارئ أخرى لتخطي العتبة بسلام، فيكون مصيرهم الحرمان من مزاولة التعليم الجامعي، لكن خفي عن هؤلاء أنّه سيكون مدخلا واسعًا للمساس بنزاهة الامتحان نفسه.

لعلّ ما نتفق بشأنه جميعا هو ضعف الشفافية، أو بالأحرى عدم القدرة على ضمانها، ليس فقط في عمليّة التقييم البيداغوجي بقطاع التربية، بل في كل القطاعات والمؤسسات المشابِهة، ولذلك يستحيل في مثل هذه الحالة الانتقال، على المدى القريب ولا حتّى المتوسط، إلى المقترح الموضَّح أعلاه، لأنه سيفتح مباشرة ويقينًا الطريق للّعب بنتائج امتحان حاسم، وترتيب مخرجاته وطنيّا وجهويّا ومناطقيّا، بل ولائيّا وبلديّا وحتّى مدرسيّا ومن قسم إلى آخر، والدليل القاطع على ذلك هو علامات مادة التربية البدنية في النظام الحالي، حيث لا تنزل عن معدّل 19/20 لكل التلاميذ والتلميذات (هناك من يُمنح 20/20)، بسبب صبِّها تلقائيّا في كشف النقاط من دون أي استحقاق رياضي.

وعليه، لو يتمّ العمل بنظام المعدّل التركيبي في الوقت الحالي، ستصبح شهادة البكالوريا تجارة في المزاد العلني، وطريقًا يسيرة للابتزاز والرشاوى، وفي أحسن الأحوال، جسرا معبَّدا لممارسات شعبويّة وجهويّة وقبليّة وحتّى عائلية ضيِّقة، ويضيع ما بقي من قُدسية التعليم وأمانته نهائيّا.

إنّ مسألة “إصلاح امتحان البكالوريا” تحيل مجدّدا إلى إثارة مطلب عودة العمل بهيئة “المجلس الأعلى للتربية”، أو ما شابهها، والذي لا يمكن الالتفافُ حولها بتنصيب “اللجنة الوطنية للبرامج” المقرَّرة مؤخرا، على أهمِّية تركيبتها ودورها في “السهر على انسجام الموارد المعرفية والمناهج مع السياسة التربوية الوطنية”.

لقد مهّد دستور 2020 بتنصيصه على “مبدأ حياد المدرسة” المجال لاستحداث “سلطة تربوية عليا مستقلّة”، تتشكَّل بطريقة ديمقراطية من خبراء مؤهَّلين، لتتولّى الإشرافَ الكامل على ضبط السياسة التربوية، في أهدافها العامّة والإجرائية، واتجاهها الرسالي ومضامينها المعرفيّة ومقاربتها البيداغوجية، بينما يوكل إلى وزير القطاع التنفيذ الميداني للمشروع التربوي والتسيير الإداريّ.

لا يمكن أن تبقى وزارة التربية، على حساسية دورها في إعداد الأجيال، تحت تصرّف الأشخاص، مع كامل الاحترام لنزاهتهم وكفاءاتهم، أو خاضعة لإصلاحات ظرفيّة أو مبادرات فئوية مرحليّة، بل هي في الأصل “سياسة دولة” قارّة، تخطط وتحدّد مستقبل المجتمع عبر المدرسة الوطنيّة، بعيدا عن التجريب والارتجال والرغبات الشخصيّة، وبالتالي لا تتأثر بقدوم ورحيل مسؤولي القطاع التنفيذيين، ولا حتى بتعاقب رؤساء الجمهوريّة في أعلى الهرم.

إنّ قضية التربية مسألة قاعديّة عميقة وجوهريّة، ينبغي الانتهاء سريعًا من ضبطها، بالرسوّ على مشروع وطني، يكرّس الانتماء الحضاري ويفتح آفاق الاستفادة من التجارب الإنسانيّة، لصناعة جيل رائد مدنيّا وعلميّا، لذا وجب الاستقرارُ على معالمها الأساسيّة، وتركها في منأى عن التجاذبات والتغيّرات الطارئة، مع إمكانية التطوير الإجرائي والمادّي حسب مقتضيات التحولات العصريّة.

مقالات ذات صلة