-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا تخاف فرنسا من الإسلام؟

لماذا تخاف فرنسا من الإسلام؟

مرة أخرى، تفتعل فرنسا معركة كراهية جديدة ضد المسلمين فوق أراضيها بعد ما أنهكتها الصدماتُ الخارجية، خاصة بإفريقيا، حيث تسقط أذرعها تباعا من دون أي قدرة على وقف الانهيار، في ظل موجة الوعي المتنامية ضد الأطماع الفرنسية في المنطقة.

الموقف ليس غريبًا على بلد مثّل أسوأ استعمار حديث، بالتزامن مع رفعه لواء “الحرية والمساواة والأخوّة”، وراية “التنوير” العقلاني الإنساني، بينما لم تكن في واقع الحال سوى شعارات زائفة لخدمة مصالحه الضيقة، عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع الشعوب الأخرى، إذ يباح فيها أبشع أنواع الاستغلال والنهب والاستعباد، لتوسيع أحلام الإمبراطورية الفرنسية.

وحتّى بمعطيات الحاضر، لم يكن القرار مفاجئا، لأنّ فرنسا أعلنت الحرب على الزي الإسلامي قبل عقدين، مع أنها تضم أكبر أقلية مسلمة في أوروبا، لكن ذلك لم يمنعها من حظر ارتداء الحجاب في مدارسها الحكومية منذ 2004، تحت ضغوط اليمين المتطرف، باعتراف وكالة الأنباء الفرنسية نفسها.

بل إنّ ساسة فرنسيين توقعوا سلفا قرارات وزير التعليم الحالي، غابريال أتال، بالنظر إلى سلوكياته غير الفطرية، حتى أنّ اليميني فيليب دي فيليي، علّق عبر تويتر، على خبر تعيينه وزيرا في حكومة ماكرون الجديدة بالقول: “إنه صيف الكارثة.. إنه سينقل وزارة التربية إلى المثليين والمتحوِّلين جنسيا”، في إشارة منه إلى إعلان الوزير بكل وقاحة علاقته الشاذّة بالنائب في البرلمان الأوروبي، ستيفان سيجورني.

اليوم يعدّ هذا الشخص الذي يدوس على كل القيم الإنسانية السويّة ارتداء العباءة في المدارس الفرنسية “انتهاكا” للقوانين العلمانية الصارمة المطبقة في بلاده، لأنها برأيه تعبيرٌ عن انتماء ديني في البيئة المدرسية، ثم يتبعه ماكرون بالتشديد على الحزم في تطبيق المنع.

هذه هي علمانية فرنسا الانتقائية؛ تبيح لشخصيةٍ عمومية برتبة وزير أن تمارس الشُّذوذ، أكرمكم الله، وتجاهر به أمام الرأي العام، باعتباره حرية شخصية مقدسة، وخصوصية لا يحق للآخرين التدخل فيها، مهما بلغت من القذارة وانتهاك الأعراف السويّة في كل المجتمعات البشرية، بغضّ النظر عن معتقداتها الدينية، بينما تقمع مسلمًا في اختيار لباسه وفق قناعاته الخاصّة.

الحقيقة هي أن “منظومة الحريات” التي تتشدّق بها فرنسا ودول الغرب عموما ليست سوى أيديولوجية غربية صرفة، تعبّر عن قيم حداثية ماديّة غريزية، يتم تزيينُها بمصطلحات الكونية والعولمة وحقوق الإنسان، بدون أدنى احترام لثقافات الآخرين وانتماءاتهم الحضارية، وما تحمله من تميز في الخصوصيّة، إلى درجة أصبح التشبث بها منافيًا عندهم لمفهوم الحرية الكاذبة.

رئيس فرنسا توعّد خلال زيارته ثانوية مهنية في أورانج بجنوب البلاد أن “الحكومة لن تدع أي شيء يمر، لأن هناك حالات كثيرة تحاول تحدي النظام الجمهوري”، وهو تصريحٌ سياسي يجتهد عبثا في التبرير القانوني للتضييق على الهوية الإسلامية، لكن السؤال الجوهري: لماذا تمنع السلطات الفرنسية من الأساس ممارسة الحرية الفردية على المسلمين؟ هل تقبل الحريات التجزئة والانتقائية إلى هذا الحدّ من التناقض؟ أليس صادمًا اعتبار مثلية الوزير “حرية خاصة”، بينما يتمّ تصنيف موضة اللباس “تهديدا لقيم الجمهورية”؟!

هذا ليس رأينا وحدنا في المسألة، بل هو ما تؤيده أيضا المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، مارتا هيرتادو، والتي قالت ردّا على القرار الفرنسي الأخير إنّ “المعايير الدولية لحقوق الإنسان لا تسمح بفرض قيود على المظاهر المرتبطة بالدين أو المعتقد، إلا في ظروف محدودة للغاية، بما فيها تلك المرتبطة بالسلامة والنظام والصحة أو الأخلاقيات العامة”، فأي خطر محدق يشكله ارتداء لباس معين على النظام العام في أي دولة؟

قطعا أن التحجج بقيم الجمهورية ليس ذريعة لتسويغ التضييق على المسلمين، بل هو إمعانٌ ساذج في بث الكراهية تحت نفوذ اليمين المتطرف، وما تفعله فرنسا الرسمية يبقى دليلا قاطعا على فشلها في إكراه الفرنسيين من أصول عربية وإسلامية على الاندماج الثقافي، بل الأخطر أنه مؤشرٌ حقيقي على رعبها من مستقبل الإسلام في القارّة العجوز كلها.

تنامي ممارسات “الإسلاموفوبيا” خلال السنوات الأخيرة بالبلدان الغربية ليس فقط نتاج خطابات سياسوية، مع بروز التيار الشعبوي اليميني المتطرف، بل هو كذلك تطبيقٌ لسياسات الحد من انتشار الإسلام، انطلاقا من دراسات ديمغرافية موثوقة عندهم تؤكد هيمنته الدينية مستقبلا، ضمن التعداد السكاني للدول الأوروبيّة، بمزاعم باطلة تاريخيّا، ترى في أوروبا موطنًا للمسيحية، بينما الإسلام وافدٌ غريب، في حين أن وجوده الحضاري، دينيّا وثقافيّا وعلميّا، هو الأصيل في القارّة.

في أوائل العقد الأول من القرن 21، صاغت الكاتبة البريطانية، بات يور، نظريتها المشؤومة عن عوْرَبة أوروبا (Eurabia)، للتحذير من كيانات عالمية تهدف إلى أسلمة وتعريب القارّة، لإضعاف ثقافتها وتقويض التوافق السابق مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وقد تلقفت قوى اليمين المتطرف نظرية المؤامرة لشحن الكراهية ضد العرب والإسلام.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!