-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا مات البخاري الموريتاني في دمشق؟ – الحلقة الثانية

أمين الزاوي
  • 5401
  • 10
لماذا مات البخاري الموريتاني في دمشق؟ – الحلقة الثانية

من لا يعرف البخاري الموريتاني لا يعرف دمشق.. هذه العبارة ليست مبالغة أبدا، يعرفه الجميع من المثقفين والصحفيين والجامعيين ورجال المخابرات وأصحاب المطاعم والخمارات، اسمه محمد البخاري، على سنة جده المثقف والأديب الأمين الشنقيطي جاء الشرق في بداية السبعينيات واستقرت به الأيام بدمشق، وحين غرق فيها، عشقها فلم يستطع مغادرتها، ماتت أم محمد البخاري الشاعرة الشعبية بضواحي نواكشوط، والتي كثيرا ما حدثنا عنها وقرأ علينا من قصائدها، بكاها بحرقة حين جاءه خبر موتها ولم يتحرك ولم يفكر في الرحيل عن مدينة محيي الدين بن عربي، بل بعد رحيل أمه أصبح أكثر ارتباطا بدمشق، سكن البخاري في كثير من أحياء المدينة: ركن الدين والتجارة والتضامن والحريقة والمهاجرين وشارع بغداد وعرنوس وغيرها، شأنه شأن جميع الطلبة القادمين للدراسة بجامعة دمشق، كان سكنه إما قبوا من أقبية البنايات أو سطحا من سطوح عماراتها الشاحبة بكحال المازوت، وكان دائما سعيدا مبتسما جاهزا للجدل والنقاش في الفلسفة التي نال فيها درجة الليسانس وفي الأدب الأمريكو-لاتني وفي الترجمة.

محمد البخاري هذا الذي أحدثكم عنه ليس شخصية روائية أو خيالية، هو الحقيقة التي يلتقي فيها الخيال حيث تتبدى الحدود بينهما، لم أعرف شخصا أنحف من البخاري، كان عبارة عن هيكل عظمي يمشي، ولكنه لم يشك يوما ألما ولا مرضا ولا حتى وجع الرأس، ولم ينسحب يوما من سهرة ولو طالت حتى مطلع الفجر، بصحة جيدة دائما، يأكل أكل الطير، بل ينقر من صحنه أقل ما يمكن تصوره ويشبع، وبدمشق لم أعرف شخصا مثقفا ممن عرفتهم وهم بالمئات بذاكرة تشبه ذاكرة البخاري، كان يحفظ كثيرا من شعر أمه، ويحفظ مقولات الفلاسفة وقصائد الشعراء العرب من أجيال مختلفة ومثلها يحفظ بالفرنسية وبالإسبانية، اللغة التي تعلمها في أواخر أيامه وفي مدة قياسية لا تزيد عن بضعة أشهر ومنها ترجم كتابا مهما إلى العربية.

يعرفُ الجميعَ من ساكنة دمشق أو من جاؤوا إليها من مسلمين سنة وشيعة ودروز ومسيحيين وأكراد وأرمن وغيرهم ويعرفه الجميع من هؤلاء وأزيد، لا ينسى أحدا ولا يسقط من ذاكرته اسم. يرحل الناس إلى مدن وبلدان، ويهاجر الآخرون من دمشق وإليها والبخاري باق كقوس من أقواس مسجد الأمويين بالحميدية أو كعمود من أعمدة كنيسة العذراء بحي باب توما.

تعرفت على البخاري أول مرة، كان ذلك بمهرجان السينما الدولي بدمشق بصالة السينما السفراء، إذ وفي غياب الدبلجة والترجمة المكتوبة لبعض الأفلام الفرنسية فقد كلف المنظمون البخاري بأن يقوم بالترجمة الفورية، من الفرنسية إلى العربية، على كرسي خشبي في ركن مظلم يجلس البخاري قبالة الشاشة يتابع كما يتابع الجميع الفيلم، ويترجم من خلال مكبر صوت في يده، كان الأمر مثيرا بالنسبة لي، والأكثر إثارة من ذلك أن الجميع من المشاهدين الذين يتابعون عرض الفيلم كانوا يعرفونه وينادون باسمه، يهتفون عاليا حين يتضمن الفيلم لقطة ساخنة فيسكت البخاري عن ترجمته أو يقوم بذلك برمزية وتورية وابتسامةفتصرخ القاعة: لا يا بوخاري لا يا بوخاري .. مو هيك!!

كان سفيرا مغاربيا أكثر من أي سفير من سفراء المغرب الكبير

كان البخاري يقول: في هذا البلد، يعني سورية، حاوِرْ الجميعَ واختلِفْ مع الجميع ولكن لا تحاورْ المخابرات ولا تختلفْ معهم.

كان يتكلم اللهجة الدمشقية على الأصول والحلبية ولهجة دير الزور ولهجة دروز السويداء. من دخل مدينة دمشق من العرب أو المغاربيين عليه أن يدخلها من باب البخاري، فهو الذي يوصله للمؤسسة المطلوبة وهو الذي يعرفه بالأشخاص والشخصيات التي يرغب في لقائها أو التعرف عليها.

عاش البخاري فرحا مبتهجا إذا ما ملك فلسا صرفه في يومه ليصبح في اليوم التالي على الصفر، ولكنه لم يكن محتاجا يوما ولم يمد يده لأحد يوما. كان قادرا على ترويض نفسه وتطويع حياته كما يريد.

لنحافة جسمه كان البعض من الأصدقاء الكتاب والفنانين يسمونها “البخار” فهو قادر على التبخر في كل لحظة. كان مثقفا عقلانيا عميقا لكنه ظل شفويا لا يكتب. صادق أكبر الأسماء في الفكر، فكان الصديق الحميم لأكبر المفكرين والفلاسفة طيب تيزيني وصادق جلال العظم وبديع الكسم ونايف بلوز وأنطون مقدسي وغيرهم، وكان صديق الأدباء أيضا: ممدوح عدوان وشوقي بغدادي ويوسف اليوسف ونبيل سليمان وحيدر جيدر وسيف الرحبي ورياض الصالح الحسين وخليل صويلح ورشا عمران ولينا الكيلاني ومروان ناصح وسعدي يوسف وبندر عبد الحميد وغيرهم.

لم يتحمل البخاري انهيار القيم بدمشق والانحطاط الذي بدأ يأكلها فسلم نفسه للموت، ما كان عليه أن يموت وهو العاشق لولا أنه شعر بأن المدينة التي جاءها في مطلع السبعينيات لم تعد هي نفسها مدينة الألفين، كل شيء فيها انهار، حتى اللغة الدمشقية التي تشبه تغاريد الطيور اخترقت وتلوثت بلهجات البدو وسائقي الطاكسيات العنيفين وسباب المجندين واعتداءات سرايا الدفاع.

حين شعر بأن الياسمين الدمشقي الذي تحدث عنه ورفعه عاليا الشاعر نزار قباني في أجمل قصائده، حين شعر بأن الياسمين قد فقد عطره وسحره ونساءه أمام رائحة البارود والكراهيات مات البخاري الموريتاني.

حين أصبحت مطاعم دمشق: اللاتيرنا والريس ومكسيم والفريدي وعلي بابا وغيرها… حين أضحت شبيهة بمطاعم أي مدينة خرساء في الشرق أو في الغرب في الشمال أو الجنوب، تقدم علفا ولا تقدم فنا، ولم تعد مقاهي المدينة كمقهى الروضة أو الهافانا والنوفرة فضاء للمثقفين والعلماء واللغويين والسياسيين والأدباء حزن وانسحب إلى شقته بعرنوس ومات.

حين شعر بثقافة الكراهية والطوائف ترتفع قليلا في الجامعة والمؤسسات لتصل حتى بائعي السجائر على الرصيف، انسحب وأسلم الروح لباريها.

حين نظر إلى قاسيون جبلا خاطبه الشعراء عبر العصور من أمير الشعراء أحمد شوقي إلى بدوي الجبل وسعيد عقل وغنته فيروز بجلال، حين نظر إليه وقد أصبح مطية لشعار يمجد سلطة قامعة وتحول إلى ثكنة عسكرية وقصر رئاسي وانتهكه النازحون من الشبيحة وأسسوا حيا فوضويا سموه المزة 86، بناءات فوضوية للشبيحة والعسكر والمخابرات الطائفية… حين رأى الشعر والغناء يسقط من قاسيون أمام صعود العسكر وصراخ الاعتداءات قرر أن يموت. فمات بصمت وكبر.

مات البخاري حين شعر بأن هولاكو جديدا قد دخل الشام واستباحها.

قال لي صديق مشى في جنازته: حين دفناه وعدنا، قلت لمرافقي، هل مات البخاري حقا؟ أليس موته كذبا أو مزحة وأننا سنجده في مطع الرواق أو مطعم نقابة الفنانين يناقش كعادته هذه الليلة؟

وفي المساء، حين دخلنا المطعم لم نجد البخاري الموريتاني، كانت طاولته يتيمة، وإذ تأكد لنا بأنه مات تأكد لنا مع موته بأن دمشق هي الأخرى ماتت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • كوكو

    تابع..مع أن دمشق تعج بالأدباء و المفكرين والشعراء والمُلهمين،من رابطة أدباء الشام و رابطة الأدب الإسلامي وغيرها،لكن الزاوي عودنا
    على ذكر من تشتهيه ملته و تستلذه عقيدته وتميل إليه قناعته،وهو حر في ذلك ولو مسه الضُر،وأنا أحترمه وأقدر العلم والثقافة والإبداع التي يحملها في دماغه وعقله،عسى يوما أن يكون عادلا فيحدثنا عن العلامة الدكتور الملهم"مصطفى السباعي"،و العبقري"بهاء الدين الأميري" و الأديب المميز"محمد الحسناوي" و الشاعر الكبير"عادل الهاشمي" وغسان السباعي وغيرهم،حتى لا
    نتهمه يوما باللونية...

  • كوكو

    تابع..عمل مستشاراثقافيا في سفارة إسبانيا بدمشق(يجيد اللغة
    الإسبانية،مُستعمرة موريتانيا)ومُدبلجا للأفلام السينيمائية،وكان ولعه بدمشق مقدمة لبلوغ سمة المثقف المُحب لكل شيئ فيه لفظة "ثقافة"،لهذا كان شغوفا بحضور التظاهرات والندوات و المقاهي الأدبيةحتى و لو كانت تتم بالبارات Les Barsوالملاهي.
    السيد زاوي فتش في حقيبة أفكاره وجعبة أسفاره وفوضى ذكرياته عن شخص يؤنسه في هذا القوس الذي فتحه،يكون من دمشق أو يعيش فيها،بشرط أن يكون مثله(ماركسيا)،فوجد ضآلته في هذا البُخاري،مع أن دمشق تعج بالأدباء و المفكرين..

  • كوكو

    الحق أنني لا أعرف هذا الرجل ولم أسمع به من قبل،(وهذه حسنة من حسنات السيد زاوي تُحسبُ له حين نفض الغبار عن رجل مثقف تخلى عن سماء الوطن ودفء الأسرة عُشقا للمعرفة وحُبا للآخر)، فحين جنحتُ في فضاء النات بحثا عنه وعن سيرته وجدته رجلا متواضعا قنوعا صبورا يجيد السباحة في بحار الثقافة و الفلسفة ،عشق الفلسفة فتعلقت قلبه بفيلسوف الجمال الدمشقي الماركسي"نايف بلوز"،وبفلاسفة آخرين"ابن رشد"و"جورج لوكاتش" (مؤسس الماركسية الغربية)،عمل مستشارا ثقافيا وإعلاميا في سفارة إسبانيا،ومُدبلجاdoublage للأفلام السينيمائية

  • Ansem

    Monsieur zaoui,
    Votre plume ne cesse de pleurer cette ville qui vous habite vous aussi. On aurait voulu que, des intellectuels de votre trempe, de votre degré aussi, on aurait aimé en avoir par centaines chez nous. On aime vous lire. Souvent, on fait le lien entre vos écrits, vos séminaires à la faculté d'Oran et vos interventions télé. Emerveillé et artiste. Nous vous aimons comme çà.

  • مواطنة من دمشق

    الرد على المدعو سعد صاحب التعليق 5
    أنا شامية و من عائلة المرحوم الشاعر نزار قباني، غتق الله يا سعد، إذا كان لهذه الأمة شاعر تفتخر به، فنزار هو ذاك الشاعر,
    نحن في الوطن العربي مرضى بتحطيم رموزنا الأدبية
    و أشكر كاتب المقال الأستاذ أمين الزاوي على أسلوبه الراقي و عربيته المتميزة و سعيدة بمثل هذه الأقلام من جزائر كنا نعتقد أن الاستعمار الفرنسي قد اعتال العربية فيها، ها هو مثل هذا الأديب السيد أمين الزاوي يعيد للغة العربية مجدها في بلاد الثورة
    و شكرا لجريدة الشروق الجزائرية

  • saad

    الزاوي لا يتذكر الا اهل الماكسيين و الملحدين غفر الله لهذا البخاري كان الزاوي يعشق السهر في ندوات الشعر الذي يمجد الجسد و الشهوة من امثال نزار قباني

  • ديري

    إلى صاحب التعليق رقم 2
    أنت من الشبيحة يا عرس
    كم يدفعو لك
    تشكراتي للكاتب أمين الزاوي أنت قلم كبير يا سيدي بوركت الجزائر فيك

  • ميسوم

    تلك هى بلاد الشام التى قال عنها رسول الله صلعم الهم بارك فى شامنا تحب وتعشق الكل برحابت صدر ودوده احبها كل من زارها وحتى الدى قرا او سمع عنها لا اريد ان اردد ما قلته لاكن حالها حال الجميع الدى غطته وانغمس فى العولمة وكثرة عليه مغرياة الحياة وهو مكره تتغير الاحوال بمرور الاجيال اللهم ارزقنا حسن الخاتمه

  • البحث عن العناوين

    يمشي البعير في الطريق السيار.
    يأكل الديك حبات التوت من وراء الزجاج .
    المرأة التي بكت في قبرها .
    طغيان النمل وفوضى الصرصور .
    عاشت في البحر وماتت تحت ردائي .
    --- اختر عنوانا لمقالك من هذه العناوين

  • غريب في دياري

    يا سيدي ، مدينة بعراقة وقدسية الشام لن تموت لموت صاحبك ولعل نظرة في تاريخ المدينة ينبيك صدق كلامي