الرأي

لماذا وصلت أمريكا إلى هذا الحال؟

ح.م

احذر ظاهرة الحياة الأمريكية..!

تنبه لعنفها المهين!

ارتد سترة النجاة كي لا تغرق بركام من السلع والأوهام!

تجنب الانزلاق في قنوات التيه التي تستلذ بمعاقبة الجسد! لا يأخذك الهواء المكيف إلى كابوس لا تفق منه أبدا!

وابحث بعقل واع عن مفاهيم: الأخلاق ـ الحق ـ العدل.

لن تجدها في قاع شعلة تمثال الحرية، أو في دهاليز وول ستريت، أو في حدائق البيت الأبيض أو في أروقة الأمم المتحدة المنتصب شاهدها في قلب نيويورك كما لم تجدها ممتدة مع خطوط مترو الأنفاق، أو طائرة بأجنحة أمريكا بان، أو رمزا راقيا في صدر “كاديلاك” الفارهة، لن تجدها لا هنا، ولا هناك!

ابحث عنها دون يأس، ستجدها حتما، ستجدها مفاهيم بلا مضامين أو جسدا عاريا يتلذذ بانتقالات الفصول.

فاشية يقاومها يسار متمرد “Anti-fascist” العنوان الذي يخدش الحياء الأمريكي المزين بألوان الحرية والعدالة، عجز البيت البيض عن مواجهته، والتطهُّر من مساوئ معناه؟

حركة مناهضة الفاشية تختصر اسمها في “انتيفا” تقود ثورة الغضب الأمريكي الآن، لا ترى فرقا بين عنصرية أدولف هتلر في ألمانيا أو بنيتو موسليني في إيطاليا عن حكم البيت البيض في ضمان حق الحياة لأمريكي من أصل إفريقي.

عنفٌ وفوضى وخراب ودمار، مشهد حيّ عطل الحياة الأمريكية في ثورة غضب إنساني ضد عنصرية متوارثة فضحت حضارة العصر الحضاري الراهن التي يخنقها شرطيٌّ أبيض بركبتيه.

“أمريكا الآن” ليست اقتباسا لعنوان قديم وضعه العالم الأمريكي الشهير “مارتن هاريس” المتخصص في الأنثروبولوجيا وهو يُعرّي واقع الحياة الأمريكية من لباسها الحضاري، إنها الرغبة في التساؤل فقط: لماذا وصلت الإمبراطورية الأمريكية إلى هذا الحال؟

يصرخ الأمريكي في أكبر ساحات واشنطن قائلا:

“إن أمريكا دولة كبرى.. بإمكان حكومتها، ويجب عليها أن تقدِّم للشعب أكبر الامتيازات”.

يقول الأمريكي هذا وهو يدرك أو لا يدرك، أن القيم الأخلاقية قد تغيَّرت، أو كل شيء قد تغير، وطغى عصر القانون المفرغ من محتواه.

يفضح العالم الأمريكي الشهير “مارتن هاريس” المتخصص في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) في كتابه حول المجتمع الأمريكي الذي صدر بعنوان “أمريكا الآن” وتناول فيه العبادات والجريمة والبضائع المزيّفة وانخفاض الدولار والأعمال الإباحية الفاضحة ومحلات الجنس والرجال الذين يهسهسون في الطرقات وبهرجة الفتيات وتمرد النساء وتأجيل الزواج وارتفاع نسبة الطلاق وانعدام الرغبة في الإنجاب ومهاجمة النساء المسنّات واغتصابهن.

وأولئك الذين يهاجمون القطارات ويسطون على محطات البنزين، والخطابات التي لا تصل إلى أصحابها إلا بعد أسابيع، أو خدم المطاعم الذين يقذفون بالطعام في وجهك وسوء معاملة البائعات في المتاجر، والحاسب الآلي الذي يجعلك تدفع ثمن أشياء لم تشترها والمقاعد الخشبية المحطمة، والنافورات التي جفّ ماؤها، والنوافذ التي انكسر زجاجها، والمراحيض القذرة، والطرقات المليئة بالحفر، وهذه المباني التي زال طلاؤها، هذا إلى جانب أشياء أخرى جديدة أضيفت إلى واقع الحياة الأمريكية.

وأمام الحقائق التي يعلنها بجرأة “مارتن هاريس” يتساءل المفكر الاقتصادي الياباني “كينيش ادوارد” عن الأسباب التي جعلت أعظم بلد في العالم يصل إلى هذه الحال؟!

إنه الكشف عن ظاهرة الحياة الأمريكية المتسعة بعنفها المهيمن، الخارج عن السيطرة الذاتية.. هذا العنف الذي لم يكن طارئا أو اعتباطيا.. إنه ذلك الإفراز الطبيعي لحركة الثورة الصناعية الذي استمدّ مبررات وجوده الدائم من أعماق جذور الحضارة الأمريكية المفتخرة بسيادة نموذجها الأوحد “العم سام”، المتخلية عن كل القيم إلا قيم الاستهلاك التي تنسجم مع طموحاتها في إعادة هيكلة الحياة وفق المعايير النفعية، التي تمكّنها من السيطرة على حياة الإنسان وانتزاع استقلاليته وتجريده من مكانته.

هي الممارسة التعسُّفية اليومية التي تسعى جاهدة نحو إلغاء الآخر، بعد تجريده من كل خصائصه.. في واقع التعارض الأمريكي الذي أضحى قضية ساخنة من وجه نظر المخرج السينمائي الأمريكي “مايكل شيمنو” وهو يختار لفيلمه “مطارد الشمس” صورة سينمائية مثيرة تعرض التهكّم والازدراء من طريق الحياة الأمريكية التي تثير الجدل حول مسألة الرؤية الفردية لواقع التعارض بين الحقوق الشرعية والمعنوية للفرد الأمريكي.

لقد أخذ قصته من كاتبها الأمريكي “تشارلز ليفت” وهو يفضح أوهام الغطرسة الكامنة في الذات الأمريكية تحت غطاء الديمقراطية والحرية والتحضُّر..!

ويتحدث عن التصوّرات النمطية التي تحكم سلوك الفرد الأمريكي وتحول دون الاتصال الإنساني بين نموذجين مختلفين نسبيا في واقعهما الاجتماعي وتكوينهما الثقافي والنفسي، مشيرا إلى أن المجتمع الأمريكي يصحُّ القول فيه إنه جماعاتٌ بشرية غير متجانسة أو متماسكة يمتنع أفرادُها لأسباب سياسية وطبقية عن الدخول في علاقات صريحة وحقيقية غير نفعية بين بعضهم البعض.

التصادم الحضاري أو صدام الحضارات المبرر الأمريكي القائم في مجابهة الآخر وإلغاء وجوده.. هكذا يفكر “صاموئيل هنتينغتون” في كتابه “صدام الحضارات” وهو يلجأ إلى عملية تزييف الإدراك والتحليل وتبسيط المواقف وابتسار الحقائق أو تجاهلها والترويج لشعارات وصيغ جاهزة تتعامل مع الآخر كونه جاهلا بالصيرورة الحضارية والتاريخية والاجتماعية من أجل أن يضعه في موقع الضد من الثقافة والتقدم والحضارة الإنسانية.

مقالات ذات صلة