الرأي

لهذه وأخرى يصمت دكتور أبو القاسم سعد الله؟

أمين الزاوي
  • 8042
  • 37

خمسينية استقلال الجزائر على الأبواب. بل إنها ها قد حلت ساعتها في بيتنا الكبير الجزائر. ومع حلولها يكثر الحديث عن تاريخ الجزائر، عن الثورة وعن الشهداء الأبرار، حديث على كل الأفواه وبها، وبكل اللغات، أحاديث ينتجها فاعلون حقيقيون وشهود حقيقيون طورا وينتجها طورا آخر شهود زور ومرتزقة، وينتجها أنصاف المؤرخين طورا ثالثا، على الضفة الأخرى من المتوسط انطلقت منذ شهور معركتهم حول الرمزية، معركتهم حول الذاكرة، وجندت لذلك العدة والعتاد، على جبهة الكتاب والسينما والنقاشات والمسرح والأرشيف.

الخمسينية على الأبواب، بل ها هي قد حطت في حوشنا الكبير، في زمننا، ومعها بدأ ضجيج المتربصين بالولائم يتصاعد، الذين لعابهم لا يسيل إلا في مثل هذه اللحظات وعلى هذه الموائد التي تكون سخية ومرقة، وفي الوقت الذي يرتفع اللغط الكثير يسكت صوت العاقل، لذلك أقول: ما أكبرها ضجة من ذئاب التاريخ وما أحيرها سكتة من المؤرخين الذين لنا فيهم حلم الموضوعية والرصانة وعلى رأسهم الدكتور أبو القاسم سعد الله.

صحيح أن التاريخ ملك الجميع، صنعه الجميع، كل بطريقته وعلى طريقته الخاصة، ولكن قلة قليلة من صانعيه من لها القدرة على صياغة هذا التاريخ وتقديمه للجيل الجديد الذي ضيّع كل المرجعيات وكفر بكل القيم ورمى بنفسه في البحر على قوارب من مطاط، ومن هذه القلة الصفوة الأستاذ أبو القاسم سعد الله.

فلماذا يسكت أبو القاسم سعد الله في أيام يجب أن نسمع فيها صوته عاليا أكثر من أيام أُخَر؟ أكثر من أصوات الآخرين.

ندوات تنظم في الجهة الأخرى، مناظرات بين صناع التاريخ من المناضلين والسياسيين وبعض مؤرخي الضفة الأخرى، ويغيب عنها مؤرخ اسمه أبو القاسم سعد الله، هذا الذي صرف عمر سنوات الاستقلال أو يزيد في الحفر العميق والمتواصل في تاريخ هذا البلد قديمه وحديثه ومعاصره.

فلماذا يسكت شيخ المؤرخين في أيام نريده فيها أن يرفع صوته كي نسمعه نحن تلامذته؟

حين يطغى الحس الاحتفالي على التاريخ، يعتلي السياسيون المنصة ويزاح أو يتخلف أو يختفي أو يهمش المؤرخ العالِم، حين يُغطي الكرنفال على أوراق شجرة التاريخ يرتفع صوت الغوغاء، ويختفي صوت الحكمة، فرجاء لا تجعلوا من الخمسينية احتفالا بل اجعلوا منها لحظة تأمل وقراءة لجزائر جيل جديد، جزائر هي في مفترق الطرق تبحث عن من يقرأ كفها قراءة العالِم لا قراءة الدجال.

كما أن هناك كثيرا من “الخلاطين” في السياسة، فهناك مثلهم في الثقافة، ومثلهم يوجدون أيضا في الأدب ولكن أن يصل الأمر إلى “التخلاط” في التاريخ الذي هو ليس الماضي بل إنه المستقبل، فتلك هي جوهر أزمة ومأساة الخطاب عندنا.

أصبح كل من هب ودب يكتب في التاريخ، يؤلف الكتب والسيناريوهات وينجز أفلاما عن شخصيات تمثل الرمزية في التاريخ، لماذا لم يقم هؤلاء بذلك منذ سنوات؟ مع احترامي لبعض السينمائيين المثقفين والجادين ومن بينهم أحمد راشدي، إني أشعر بأنهم يقومون بذلك لا عشقا ولا إعجابا ولا غيرة في ثورة التحرير المجيدة ولا تمجيدا لرموزها بل لأن اللعاب يسيل على “المال” الكثير، لهذا سكت أبو القاسم سعد الله لأنه لا يعرف اللعب في مثل هذه الملاعب، حيث تطغى سلطة “البريكولاج” والتزلف، والناس “تغرف” باسم كتابة التاريخ وباسم الذاكرة.

أسمع وأقرأ بعض التصريحات القائلة: سننشر ألف كتاب عن الثورة بمناسبة الخمسينية، وأقول وأتحدى، بعيدا عن لعبة إعادة طبع ما أعيد طبعه مرات ومرات وفي كل المناسبات، أي تسخين البائت المسخن، أتحدى أي جهة كانت الإتيان بعشرة كتب جديدة عن تاريخ الجزائر، وحين أقول “عشرة كتب” فأنا متفائل جدا، لهذا سكت أبو القاسم سعد الله، سكوت الحكيم.

أقول، احتراما للخمسينية المباركة، انشروا اثني عشر كتابا، فقط، جديدا ونظيفا وعميقا عن التاريخ، كل شهر بكتاب متميز، كتب تقرأ وتثير النقاش وتُعلِّم السؤال، وتكون قادرة على تحريك رغبة الكتابة لاحقا لدى آخرين وتحرض على القراءة الإيجابية، انشروا اثني عشر كتابا متميزا إن وجدت، فسيبارككم الشهداء وسيفرح العربي بن مهيدي في ملكوت السماء وسيسعد لطفي وزيغوت يوسف وديدوش مراد وفرّاج وحسيبة ومليحة وعبان رمضان وعميروش وبوقرة والسي الحواس وبومنجل و و و القائمة أطول من المليون والنصف من الجالسين إلى جوار الأنبياء والصادقين.

انشروا، ثلاث روايات، وثلاث مجموعات قصصية، وثلاثة دواوين شعرية، على طول 365 يوم من أيام الخمسينية، يكون روايات وقصص وأشعار يتوفر فيها إبداع يحرك القراءة ويعيد النقاش حول جودة الكتابة والكتاب والتاريخ، إذا توفر ذلك، نصوص تكون قادرة على المنافسة وتشريف صوت الجزائر المستقلة في خمسينيتها العظيمة، في بيروت والقاهرة والخرطوم والرباط وتونس وباريس، وأنا متأكد بأن الشهداء من الكتاب الأدباء ستغمرهم السعادة في العالم الآخر وهم يقرؤون مثل هذا الإبداع، من أمثال: أحمد رضا حوحو وعبد الكريم العقون ومولود فرعون والبناسي والعربي التبسي وزدور إبراهيم والزاهري وغيرهم. وسيشعرون بأن مدادهم له سلالة نقية تمتد في هذا الجيل الجديد من الكتاب والأدباء.

أقول أيضا: اخرجوا لنا ثلاثة أفلام مشرفة عن الثورة، ثلاثة فقط تكون قادرة على أن تدخل صالات السينما في العالم العربي والمغاربي والفرنسي، تدخل هذه الصالات وهي تحمل المستوى المطلوب في الأفلام، من حيث الجماليات المعاصرة، انجزوا ثلاثة أفلام في مستوى عظمة الثورة، وسيكون المخرج السينمائي المرحوم جمال شندرلي وأستاذه المخرج رونيه فوتييه معلم السينمائيين الجزائريين الذين التحقوا بجبهة القتال إبان الثورة وآخرون، سيكونون جميعا أسعد خلق الله من في جواره أو من في انتظار لقائه.

أقول اخرجوا لنا ثلاث مسرحيات عالية الجودة، قادرة على أن تبهر، وأن تُشاهد وبحب وتأمل وسؤال وأن يتابعها المواطن في تمنراست والطارف وبئر العاتر ومسيلة وباب العسة وسبدو وبشار وبسكرة وحاسي ماماش وسوق اهراس و … ثلاث مسرحيات متميزة تحترم الخمسينية وتقرأها وتكرم الثورة التكريم الفني العالي، ثلاث مسرحيات متميزة وسيكون عبد القادر علولة سعيدا في قبره وسيكون عزالدين مجوبي مرتاح البال في شهادته وسيكون كاكي منيرا في غيابه.

أريد أن أوضح، درء لكل غموض، فأقول: علينا تشجيع الشباب وغير الشباب من الأقلام الجديدة في نشر كتبهم في الشعر والقصة والرواية، بالتكفل بالنشر وبالجوائز أيضا، وهذا ضروري، عادي جدا وهو من واجبات الدولة، علينا تشجيع دور النشر ومرافقة المكتبات، وهذا أمر لا نقاش فيه، وعلينا تشجيع ودعم السينمائيين الجدد الموهوبين من الجيل الجديد، وذاك أيضا من مهمات الدولة، وعلينا أيضا دعم الفرق المسرحية المستقلة دعما كبيرا، ففي ذلك دفاعنا عن حرية التعبير الإبداعي وتعدد الحساسيات الفنية، ولكن علينا ألا نخلط بين التكفل بالكتابات والممارسات الإبداعية لهذه القوى الشابة أو الجديدة وبرنامج الخمسينية الذي يخضع لرؤية أخرى ومنطق آخر، ربما لهذا يصمت الأستاذ أبو القاسم سعد الله.

في هذه الخمسينية، خمسينية استقلال الجزائر، وكما في مناسبات سابقة أخرى، أشعر بأن هناك مدافعين شرسين عن الرداءة، مرافعين عنها في كل دقيقة ومن على كل منبر، لا لشيء إلا لكي يغطوا على الجودة، كي يغرقوا الجودة في بِرْكة الرداءة، لذلك يصمت أبو القاسم سعد الله، وتحياتي لك أيها الأستاذ الجليل.

مقالات ذات صلة