الرأي

لُغــويًا : شَتّان بين الجزائر والفيتنام!

يبلغ عدد سكان الفيتنام ضعف سكان الجزائر، وكان الاستعمار الفرنسي قد غزا البلدين لأكثر من قرن. أما سبب غزو فرنسا للفيتنام فكان بحجة حماية المبشرين المسيحيين، وفي الجزائر كانت حادثة المروحة هي المبرر. وقد استقلت الفيتنام، الصديقة الحميمة للجزائر، سنة اندلاع حرب التحرير في الجزائر. ومع ذلك، فالفيتنام تعتبر رسميا دولة فرنكفونية خلافا للجزائر. وللفيتنام أزيد من 80 لغة اختارت من بينها لغة رسمية واحدة، هي الفيتنامية. ويُذكر أن السلطات الفيتنامية تُضخّم عدد الفرنكفونيين في البلاد، بينما لا يتجاوز هذا الرقم 40 ألفا نسمة. ومن شأن هذا التضخيم أن يدرّ بعض المال يأتيها من منظمة الفرنكفونية.

“الجامعة الفرنسية الدولية”

خلال زيارة الرئيس الفيتنامي إلى فرنسا عام 2002 اتفق البلدان على أن تنشئ فرنسا في الفيتنام “الجامعة الفرنسية الدولية”. وتقضي الاتفاقية بأن يكون التدريس في هذه الجامعة باللغة الإنكليزية بنسبة 80% فثارت ثائرة المنظمة الدولية للفرنكفونية : كيف تنشئ فرنسا جامعة “فرنسية” في دولة تابعة للمنظمة تدرّس باللغة الإنكليزية؟ وقد دافع أصحاب المشروع على هذه الجامعة بالتأكيد على أن فرنسا تريد بذلك تصدير نظام تعليمها الجامعي إلى الخارج. وهذا يسمح لها بالحضور في السوق العالمية الخاصة بالتكوين الجامعي. وما شجع السلطات الفرنسية آنذاك على هذا التوجّه أن الفيتنام كانت تحقق قفزة نوعية في جميع المجالات… مما جعل منها دولة صاعدة بنمو اقتصادي فاق 6% سنويا.

أما الجامعات الفيتنامية فكانت ضعيفة التمويل والتكوين ورواتب الأساتذة كانت متدنية، وتجهيزات البحث العلمي متواضعة. ولذلك كانت العائلات الميسورة ترسل أبناءها إلى الخارج للدراسة، كما أن الدولة كانت توفّر بعض المنح الدراسية خارج البلاد. وقد تزايدت بسرعة نسبة الطلبة الفيتناميين الذي اختاروا الغرب لمواصلة دراستهم. ولكي تحافظ الفيتنام على الطلبة المتميّزين داخل البلاد لجأت إلى عرض إنشاء “الجامعة الفرنسية الدولية “… علما أن الجامعة تركز على المواد العلمية والتقنية وإدارة الأعمال.

وكانت الصيغة الأولى للمشروع تقضي بأن يتابع الطالب دروسه في هذه الجامعة باللغة الفيتنامية، مع متابعة دروس في اللغة الفرنسية أو الإنكليزية بحيث يستطيع الطالب مواصلة دراسته العليا بإحدى اللغتين. لكن ما حدث أن اللجنة المشرفة على المشروع قررت فيما بعد ألا تتجاوز نسبة الفروع التي تدرس باللغة الفرنسية 15%. وهذا ما لم يرضِ الفرنكفونيين في فرنسا. وقد رأوا في هذا القرار أن فرنسا تموّل من المال العام جامعة تسمى “جامعة فرنسية” وهي تُدَرِّس باللغة الإنكليزية.

وما صفة “الفرنسية” التي ألصقت بالجامعة، حسب هؤلاء، إلا خدعة يوهم بها المسؤولون الرأي العام بأنهم يموّلون مشروعا وطنيا. ويضيف الفرنكفونيون أن هذه ليست المرة الأولى التي ظهرت فيها هذه الخدعة : فالمركز الفرنسي/الفيتنامي للتسيير -الذي تموّله سفارة فرنسا في الفيتنام- لم يفتح عام 2004 قسما باللغة الفرنسية في هوشيمنه. أما في هانوي فنسبة من يتابع الدروس باللغة الفرنسية لا تتجاوز 20% من المسجلين… والباقي يتابع تكوينه باللغة الإنكليزية. ويبرر المسؤولون الفرنسيون ذلك بكون الطلبة الفيتناميين لا يرغبون في تلقي الدروس باللغة الفرنسية بل يفضلون عنها اللغة الإنكليزية لأنها تفتح لهم آفاقا أوسع في العالم.

وقد بلغ النقاش أشدّه حول هذه السياسة الفرنسية التي تخدم لغة الغير أكثر مما تخدم لغتها، فأرغمت السلطات  الفرنسية على التراجع في تمويل هذا المشروع وفق الصيغة الأولى.

وينتصر الفيتنام…

طالب الفرنكفونيون بدفن هذا المشروع… وقد دُفن فعلا. لكن الشباب الفيتنامي يراهن اليوم على التعلم باللغة الأنكليزية، وقد انتشرت هذه اللغة في الفيتنام نتيجة الطلب عليها فصار البلد الدولة الأنكلوفونية الثالثة في المنطقة بعد الفلبين وماليزيا حيث أصبح أزيد من 5 ملايين فيتنامي يتقنون الإنكليزية. وعُزلت الفرنسية في الفيتنام إذ لا يُقبِل على تعلمها إلا القليل بسبب العولمة والتجارة العالمية.

والصيغة الجديدة التي تبنتها الفيتنام هي إنشاء “جامعة دولية” لا توصف بـ”الفرنسية” وذلك بمساعدة فرنسا وكذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا واليابان، يكون لها فرعان في جامعتي هانوي وهوشمنيه ! بمعنى أن الصيغة واحدة والهدف واحد، وإنما تغيّرت التسمية بحذف صفة “الفرنسية” من اسم الجامعة. وهكذا نرى أن الفيتنام نجحت في تمرير مخططها القاضي بإنشاء جامعة دولية تستقطب خيرة أبنائها وتكونهم في بلدهم.

وما يؤكد ذلك هو ما ورد قبل بضعة أيام في أسبوعية “أخبار الجامعات في العالم” الصادرة  في لندن حيث جاء في إحدى مقالاتها أن الدخول إلى الجامعات الفيتنامية سيكون متوقفا على مستوى الطالب في اللغة الإنكيزية. وقد حذر الخبراء من كون مطلب اللغة الإنكليزية لدخول الجامعات قد يعيق الطلاب الريفيين. فأثار ذلك مخاوف بشأن عدم المساواة بين الطلاب في المناطق الريفية وسكان المدن : هناك ما لا يقل عن 30 جامعة فيتنامية أعلنت عن أنها ستعطي الأولوية للطلبة الحاصلين على شهادات عالمية تثبت جودة مستواهم في اللغة الأنكليزية. ويرى المتتبعون أن هذه الأولوية ستؤدي إلى تعزيز دراسة اللغة الإنكليزية في التعليم ما قبل الجامعي.

أما في الجزائر فصرح  مؤخرا وزير التعليم العالي بأن عدد الأساتذة الذين يتقنون اللغة الإنكليزية يقدر بألف أستاذ من مجمل 62 ألف أستاذ. كما أن الوزارة أرسلت إلى الأساتذة تسأل من منهم ينتسب إلى فئة “الأنكلوفونيين” متجاهلة أن من الجامعيين من يتقن أو يلم باللغة الإنكليزية دون أن يكون خريجا من بلد معين. فالعلميون مثلا يطلعون كلهم على البحوث بالإنكليزية ويكتبون بها أعمالهم… بل هناك من يقدم بها أطروحته في المجال العلمي.

إن التحوّل المطلوب بالجزائر في سبيل الخروج من التخلف اللغوي في الدراسات العليا فهو أن يُفرض على الأساتذة في المجال العلمي، على الأقل، التدريس بها تدريجيا مع منحهم فرص التعمق في هذه اللغة، وأن تعيد وزارة التربية النظر في تدريس مادة اللغة الإنكليزية بحيث يكون الزاد الذي يتحصل عليه التلميذ –مضافًا إلى ما سيتحصل عليه كطالب جامعي- كفيلا  بتمكينه من مواصلة دراسته العليا باللغة الإنكليزية. وبدون ذلك سنظل قومًا تُبعًا لغويًا.

مقالات ذات صلة