الرأي

ماذا أكتب؟

التهامي مجوري
  • 4099
  • 8

أصعب ما يصادفني في كتابة هذا المقال في كل أسبوع عندما أكون في سفر، حيث أن السفر نفسه تعب، وذهن مشوش، واضطراب في تغيير الكثير من العادات، التي اعتدتها حياتي الخاصة والعامة، ثم إن السفر لا تتغير فيه عادات المسافر فحسب وإنما تتطور فيه التعقيدات بتطور تعقيدات وجهة المسافر، من فارق الزمن إذا كان البلد بعيدا، وإلى اختلاف اللغة والعادات وتنوع مستويات المرافقين والذين يلتق بهم…، كل ذلك يؤثر على المرء وعلى حالته النفسية، وينعكس على سائر التصرفات، ورغم أن أبسط ما في هذه التغيرات، تغير العادات وتحولها من وضع معتاد إلى وضع آخر غير معتاد..، فإن المرء لا يسعه إلا التأثر سلبا بهذا الواقع، ولذا وجدتني في اليومين اللذين اعتدت التفكير والكتابة فيهما الموضوع الذي أكتب لموقع الشروق محروما من التركيز في اختيار وكتابة موضوع ما، وهما الخميس والجمعة، فيوم الخميس كان يوم السفر، والجمعة كانت يوم الوصول وما تبعها من الالتزامات تجاه الوجهة التي قصدتها، ومع ذلك غالبت نفسي في ذلك وفرضت عليها التفكير في اختيار موضوع ما؛ لأنني ملزم بكتابته، ولكن ليس أي كتابة.

وتصوروا معي أن أكثر من خمس ساعات في الجو وأنا أفكر في الموضوع ولكنني لم اهتد إلى شيء، ولكنني بمجرد أن وصلت إلى مطار الدوحة، الذي سنبقى فيه حولي ثماني ساعات، في رحلتنا هذه، تذكرت مقالا للأخ الطاهر الأدغم، كتبه منذ مدة عن قناة الجزية، بعنوان “قطر في الجزيرة أم الجزيرة في قطر؟” فجاءتني فكرة الكتابة عن قطر…، ذلك ان قطر دولة صغيرة ولكن أفعالها أفعال كبار، إذ بمجرد ما ينزل الإنسان من الطائرة ويدخل أروقة المطار إلا ويلاحظ أنه في دولة تحترم نفسها، ودولة قادرة على المنافسة في عالم السوق الدولية، صحيح أن المرء لا يصل إلى نتائج نهائية لبناء موقف نهائي من هذه الدولة في تصرفاتها وعلاقاتها وأعمالها، وتكون له صورة مؤثرة في قراره التهائي قبل أن يرى أي شيء في البلد؛ لكن المطار هو وجه البلاد.

ولكنني بعدما اخترت هذا الاختيار الأولي لهذا الموضوع، ترددت لأنني قلت في نفسي ماذا أكتب؟  أأكتب عن الإيجابيات أم عن السلبيات؟ ماذا اكتب؟ أأكتب عن هذا المطار الذي يعج به البشر وكأنهم في يوم الحشر، من كل العالم ويتكلمون بكل اللغات، ومن جميع الوان البشر ومعتقداتهم ومستوياتهم، الفقير والغني، العامل البسيط ورجل الأعمال والطالب والأستاذ…إلخ، وهذه الكثرة توحي بأن المرء في سوق رابحة، فمطار يعج بهذا الكم الهائل من البشر، فإن البلاد التي تحتضنه “دولة” لها برنامجها الاستثماري فيه، شركة الطيران والخدمات المقدمة فيها وتغطيتها لدول العالم؟ أم أكتب عن قطر التي هي اليوم محج المثقففين والسياسيين، بما تبعث وتنشط من مراكز بحث ودراسات وإصدارات وأنشطة سياسية وثقافية متنوعة؟ أم أكتب عن الجزيرة وشبكتها الموسعة التي غزت العالم العربي وأربكت الكثير من العلاقات الثنائية لقطر مع بعض الدول؟ أم أكتب عن أني بحثت واستمت في البحث في “مكاتب القطرية” بالمطار عمن يتكلم العربية ولكنني لم أجد، لأن عمال القطرية معظمهم آسيويين، واللغة المهيمنة هي اللغة الأنجليزية وليست الفرنسية التي يودعها الجزائرية في مظار هواري بومدين بالدار البيضاء؟ أم أكتب عما يثار عن قطر من أنها عرابة التطبيع مع العدو الصهيوني، والداعمة لخط الفوضى في العالم العربي بدعم أمريكي والخارجة عن الطوع العربي؟ وأخيرا ماذا أكتب؟ أأكتب عن بلد بحجم ولايات من ولايات الجزائر، تقوم بكل هذا الفعل المؤثر؟ أم أحقق فيما يثار عن هذه الدولة، من انها تقوم بأعمالها بتكليف أمريكي وتنسيق مع الصهاينة؟ 

ولكنني صرفت النظر عن الكتابة في هذا الموضوع، لعدم تمكني من الوصول إلى جميع المعلومات المطلوبة في الموضوع، وأرجأت التفكير فيه؛ لأنه موضوع شيق، يحمل في طياته خلاصة التجربة العربية بجميع أبعادها السلبية والإيجابية.. واستمر معي التفكير في الموضوع إلى الوجهة المقصودة بهذه الرحلة، وهي السودان للمشاركة في نشاط ثقافي نظمته هيئة علماء السودان.

حطت بنا الطائرة في مطار الخرطوم، ووجدنا مضيفينا في الاستقبال، ذاكرين ما بين الجزائر والخرطوم من روابط وأواصر اللحمة والأخوة، في “الجد وفي اللعب” على حد تعبير أستاذنا الدكتور عبد الرزاق قسوم..، فقررت ان أكتب عن السودان.، هذا البلد المضيف والغني بالتجارب الوطنية القومية، فالحزب الشيوعي السوداني كان اكبر حزب شيوعي في العالم العربي، وهيئات الحركة الإسلامية فيه من أقوى الهيئات في التوجيه الديني والاجتماعي. ولكن ماذا اكتب عنها؟ أأكتب عن المطار الذيحخطت به الطائرة؟ الذي هو مطار يشبه المطار؟ ام أكتب عن عدد المسافرين الذين رأيتهم في هذا المطار، كأنهم أهل بلدة التقوا في يوم العيد، فيسلمون على بعضهم البعض ويتباوسون، ثم يختفون عن الأنظار؟ مطار لا شيء فيه، لا مسافرين كثر، ولا ذهاب ولا إياب، بسبب الحصار المضروب على السودان منذ عقود. أم أكتب عن طيبة أهل السودان وطبيعتهم العربية، الكرم وحسن الضيافة، ودماثة الأخلاق وسهولة المعشر وسرعة الألفة؟

ام اكتب عن علاقتي القديمة جدا بالسودان؟ علاقتي بالمفكر الأستاذ أبو القاسم حاج حمد رحمه الله، ومتابعتي للرئيس جعفر نميري وهو يطبق الشريعة، والحركة الإسلامية وتجربتها النوعية، على يد التيار الإخواني، ثم الدكتور حسن الترابي، وتجربة الإنقاذ الوطني، وهي النظام القائم اليوم بالسودان، وأواصل البحث  في قصة محمود طه الذي أعدم وأنا قبل ساعات من الآن –زمن كتابة هذا الموضوع-  أجلس إلى جانب القاضي الذي حكم عليه بالإعدام ونفذ..، وبقيت أفكر فيما أكتب، والوقت يطاردني؛ لأنني لا بد من أن أبعث بالموضوع يوم الجمعة مساء في أقصى حد، ولكن يوم الجمعة هذا كان ضيقا، وهو اليوم الذي وصلت فيه إلى السودان، وبعد الجمعة والغداء ارتحت قليلا، ثم كان لنا لقاء مع مجموعة من علماء السودان، وامتد هذا اللقاء إلى جزء من الليل، ولما عدت إلى الفندق، وبدأت أفكر ما أكتب؟ وضرورة إرسال الموضوع الليلة، تعبت ولم استطع التركيز، فأرجات الموضوع إلى صباح السبت وقلت في نفسي، ختى إذا استطعت كتابة شيء الآن، فإن برمجته وتنزيله على الموقع سوف يكون غدا السبت، ونمت على أن أستيقظ في الصباح الباكر، قبل فطور الصباح فأكتب موضوعا وأرسله… ولكنني استيقظت ثلاث مرات على الأقل، ولم أستطع مغادرة الفراش؛ لأنني مرهق وتعبان وكل ما استطعت فعله هو أنني أطمئن نفسي بأنني سأكتب شيئا…، وفي هذا اليوم –السبت- وعلى الساعة الرابعة صباحا بتوقيت الجزائر، نهضت مجبرا نفسي على أن أكتب، ولكنني بكل ما أوتيت من قوة لم استطع التركيز واختيار موضوع مناسب والكتابة فيه، فبحثت عن أي شيء مناسب في “لفريغو” من مقالات مكتوبة في أرشيفي، واستسلمت للواقع

وقررت أن أكتب اعتذارا لإدارة المؤسسة وللقراء عن الكتابة، ولكن ماذا أقول في هذا الاعتذار؟ أأقول أعتذر عن الكتابة بسبب مشاركتي في نشاط مع علماء السودان؟ فمثل ئهذا النشاط هو المادة الرمادية للإنتاج الفكري والكتابة عموما، وليس العكس أن يعجز فيه الكاتب عن كتابة مقاله؟

وفي النهاية قررت ألا أكتب، وإنما أنقل للقارئ الذي يقرأ يوميا ما يكتب، ولكنه لا يحس ولا يشعر بمعاناة الكاتب وهو وفكر ويقرأ ويكتب، وربما اعتقد أن ما يقرؤه هو عبارة تصفيف للكلام وكفى، فكانت هذه الصورة لمعاناتي شخصيا في كتابة هذا الموضوع أسبوعيا، مغتنما فرصة السفر هذه، ولنا عودة لقطر والسودان ومعاناة الكتابة في مقالات لاحقة إن شاء الله.  

مقالات ذات صلة