الرأي

ماذا سنفعل إذا حدث؟

محمد سليم قلالة
  • 2660
  • 15

الإجابة عن سؤال ماذا سيحدث؟ تعني أننا سندخل ضمن مجال الاستشراف. أما الإجابة عن السؤال ماذا سنفعل إذا حدث؟ فتعني أننا سندخل ضمن الاستشراف الاستراتيجي بالصيغة المتعارف عليها؟.. إن التمكن من هندسة الرؤية يستلزم بلورة تفكير استراتيجي لدى الدولة يأخذ بعين الاعتبار المسألتين معا: ماذا سيحدث؟ وماذا سنفعل إذا حدث؟

كثيرا ما تساءلتُ عمن يطرح هذين السؤالين في بلادنا؟ وهل يتم ذلك باستمرار؟ وهل يتم طرحهما بصيغ مختلفة؟ لقد حاولنا في الجامعة ومازلنا نحاول أن نؤسس لمدرسة جزائرية في الاستشراف، على الأقل يكون في مقدورها التحكم في آليات طرح الأسئلة الرئيسة وفي تصور الإجابات المحتملة لها، ولكن هذا المسعى كثيرا ما واجهته عراقيل تتعلق بالأساس بنقص في الموارد البشرية القادرة على التكفل بهذه المهمة الصعبة. وقد حاولتْ مؤسسات أخرى السير بهذه الاتجاه، إلا أن مساعيها تبدو في الغالب محدودة، وكثيرا ما تصطدم بواقع غير موضوعي يتحداها بسؤال آخر، كبير ومتكرر، يقول: وهل يمكن معرفة ما يحدث في بلادنا حتى يمكن معرفة ماذا سنفعل إذا حدث؟

وقد كان هذا السؤال في غالب الأمر هو المدخل للهروب من التعاطي مع حاجتنا لبلورة استشراف استراتيجي يمكننا من أن نكون في منأى عن المفاجآت غير السارة أو السيناريوهات  المعاكسة للتفكير الرغبوي الذي كثيرا ما نُغلّف به سياساتنا. وكثيرا ما وجد مبررات مؤسسة له، تكاد تكون ذات طابع موضوعي.

يطرح الاتجاه المدافع عن هذا الرأي المسألة بهذا الشكل: بلد مثل الجزائر لا يمكن إطلاقا معرفة ما سيحدث به باعتبار أن الآليات المتحكمة في تطوره مازالت في طور التشكل، ومن ثم فمن غير الممكن إخضاعها لمناهج التحليل المركب في نطاق الاستشراف، ويكفي التعامل معها بمنهجية رد الفعل والتعاطي اليومي مع المستجدات بعيدا عن كل محاولة استباق أو استحداث للفعل. هل ما يطرحه صحيح؟ وهل نحن حقيقة “دولة” غير قابلة للخضوع إلى قواعد الاستشراف؟

يميل الكثير إلى مثل هذه الإجابة، بالرغم من أنها مخالفة تماما لأبجديات المنهج العلمي التي تقول أننا يمكن أن نستشرف ـ في حدود المعطيات المتوفرة ـ  بمسار أي تطور حتى ولو كان عشوائيا. بمعنى أن المشكلة لا تكمن في عدم قابلية أي من الأنظمة للخضوع لقواعد الاستشراف إنما في مدى ما نملك من معطيات عنها. وعليه فإن التحليل الاستشرافي لا يستثني أيا من المنظمات أو الهيئات أو القطاعات، إذا ما تمكّنا من جمع المعطيات عنها. وهي أولى مراحل بلورة التفكير الاستراتيجي.

فهل من العسير علينا أن نمتلك المعطيات الكافية التي تُمكننا من الإجابة على السؤالين الرئيسين أعلاه: ماذا سيحدث، وماذا سنفعل إذا حدث؟

يبدو أننا لا يمكن أن نجادل في هذه المسألة بالقول أننا نفتقر للمعطيات، ذلك أن هناك فرقا واضحا بين عدم وجود المعطيات من الأساس، وانعدام القدرة لدينا على تجميعها.. إن المعطيات، عن أي قطاع أو أية ظاهرة، موجودة، ولكننا في الغالب لا نمتلك آليات الحصول عليها، أو لا نعرف كيف يتم ذلك. إن أغلب التقديرات تقول أن 80 بالمائة من المعطيات متوفرة لمن يبحث عنها، وبالمجان، فقط هي الـ20 بالمائة المتبقية التي تحتاج بالفعل إلى تنقيب وتحر أكبر، ولكنها لا تخرج عن كونها متاحة، مما يعني أننا نستطيع الحصول على 100 بالمائة من المعطيات المتعلقة بقطاعاتنا أو هيآتنا إذا ما وظفنا كافة الآليات والطرق، لتبقى مشكلتنا الرئيسة فقط في كيفية تنظيمها وتحليلها لنعرف: ما سيحدث؟ ثم لنجيب عن السؤال الثاني: ماذا سنفعل إذا حدث؟

لقد تمكنت الدول المتقدمة من أن تقارب الزمن الحقيقي في معرفة ما سيحدث بدقة متناهية بفضل تجنيد أكبر ما يمكن من وسائل جمع المعطيات في شكل قواعد بيانات تمس كافة القطاعات تكون في أغلب الأحيان متاحة للباحثين المؤهلين للتعامل معها، وأصبح بإمكانها أن تتخذ القرارات اللازمة التي تجيب عن سؤال ماذا سنفعل إذا حدث قبل أن يحدث ذلك بفترات زمنية معتبرة. وعليه فإننا في الغالب ما نجدها في كل مرة تستبق المشكلات وتجد الحلول لها قبل أن تتفاقم. لماذا لا يحدث نفس الشيء عندنا، على الأقل في القطاعات التقليدية كالتربية والتعليم والصحة والمياه والكهرباء، بعيدا عن القطاعات ذات التبدل السريع أو ذات الطبيعة الحساسة؟

يبدو أن الخلل يكمن في الجهل بأهمية مثل هذا الأسلوب في العمل، وليس بانعدام القدرة على القيام به. إن آخر ما نهتم به في هيآتنا ومؤسساتنا وقطاعاتنا المختلفة هو قواعد البيانات، إننا نعتبرها مسائل لا أهمية لها، وغالبا ما نُصنفها ضمن الأرشيف الذي لا نحتاجه، أولا نريد أن نعود إليه. بالرغم من أن كثيرا من المعطيات والحلول أحيانا هي متضمنة ضمن ما نسميه نحن أرشيفا ولم نرغب في يوم من الأيام أن نحوله إلى قواعد بيانات ديناميكية تكون في متناول معدي القرارات أو البرامج أو الحلول المستقبلية.

وفي مستوى آخر من مستويات الحصول على المعطيات وتجميعها وتنظيمها، عادة ما نترك الأمر لمؤسسات أجنبية أو جهات مختصة في جمع البيانات تقوم بما كان علينا أن نقوم به، ثم تبيعه لنا بأثمان باهظة.

إننا اليوم سنحتاج إلى مؤسسة “غوغل” للخرائط أو أي مؤسسة أخرى تملك أقمارا اصطناعية، لتبيعنا معلومات عن شوارعنا وأزقتنا ومحلاتنا التجارية، ولكي ترصد لنا الكثافة السكانية ودرجة التلوث، وأخرى لتعرفنا بحاجات أسواقنا ومتاجرنا من مواد أولية ومنتجات استهلاكية، وثالثة لتعطينا الخلاصات التي خرجت بها في مجال التحولات السكانية، ونوعية الاحتجاجات الاجتماعية المرتقبة، وطبيعتها وحِدّتها، ولكي تنبئنا باتجاهات الرأي العام من خلال التعاليق المعدة على الفايسبوك أو تويتر او الصحافة الوطنية، ناهيك عن الأحاديث المسجلة عبر الهواتف النقالة والتي يتم رصدها ثانية بثانية… وفوق كل هذه لتحيطنا علما بتلك الحسابات البنكية  المرتبطة بأموال الفساد والتهريب والتجارة غير القانونية (سوناطراط مثلا)… الخ.. كل هذه المعطيات لا نملك منها سوى النزر القليل بالرغم من أن حاجتنا إليها ستزداد باستمرار إذا أردنا بالفعل أن نستثمر الجيل الثالث أو الرابع من الهاتف النقال مثلا بفعالية من خلال إعداد تطبيقات معلوماتية تساعد على تنمية قدرات المواطن أو المؤسسات أو الهيئات في العمل أو التنظيم أو الإنتاج. فما بالك إذا كنا نريد الإجابة عن السؤال ماذا سيحدث، وماذا سنفعل إذا حدث؟

إن رؤيتنا الاستشرافية لا يمكن أن تتم من غير بلورة تفكيرنا الاستراتيجي (رابع شروط هندسة الرؤية)، وذلك لا يتم من غير إنشاء قواعد بيانات فعالة وذات مصداقية والتحكم فيها، ومن غير التمكن من القدرة على قراءتها وتصور الحلول المستقبلية من خلالها.

وبالرغم من كون هذا يبدو من الصعوبة بمكان، إلا أننا نعتبر أن القليل من الاستثمار فيه سيكون مربحا، بل وسيمكننا من التحول إلى مُصدِّري خبرة لجيراننا، لأننا سنكون سبّاقين في هذا المجال، فأغلب الدول المجاورة لنا ودول الجنوب مازالت لحد الآن، للأسف، لا تملك القدرة على الاستشراف والاستشراف الاستراتيجي: أي لا تعرف الإجابة عن السؤالين معا: ماذا سيحدث، وماذا يمكننا أن نفعل إذا حدث؟

مقالات ذات صلة