الجزائر
الفئات الهشة دفعت ثمن الإخفاق في كبح جماح المضاربين

مافيا الأسعار تهزم الحكومة وتفرض منطقها

الشروق
  • 2155
  • 18
ح.م

للمرة “ن” وعدت الحكومة ولم تنجح في الوفاء بوعد محاربة ظاهرة الغلاء التي أصبحت ملازمة لحلول شهر رمضان.. هذه المرة لم تكن كسابقاتها، فقد اعتاد الجزائريون أن تتراجع الأسعار وتعود إلى مستوياتها المعهودة بعد انقضاء الأيام الأولى من الشهر الفضيل، إلا أن هذه المرة، وتيرة الغلاء الفاحش واصلت اتجاهها نحو الأعلى وكأنها تسابق أيام الشهر الفضيل، ليكون بذلك شهر رمضان لهذه السنة أحد الأشهر الأكثر غلاء في تاريخ البلاد.
فلماذا لم تتراجع الأسعار هذه المرة بعد الأسبوع الأول من رمضان؟
وأين ذهبت وعود الحكومة في محاربة الظاهرة؟
ولماذا رسبت أجهزة الرقابة في إعادة الأسعار إلى مستوياتها الطبيعية؟ ولماذا تلتهب أسعار سلع فصلية ومنتجة محليا وفي ظروف مناخية مواتية؟
وما علاقة انهيار قيمة الدينار بوتيرة الأسعار؟
وهل هناك تناسب بين قيمة الدينار وأسعار بعض السلع المستوردة؟
هذه الأسئلة وأخرى سيحاول “الملف السياسي” لهذا العدد الإجابة عليها.

أزمة الأسعار تهزم الحكومة
رغم الوعود تكرر الفشل.. الخلل في المنظومة

لم تؤمّن الإجراءات والتدابير التي رصدتها وزارة التجارة ومعها المصالح المعنية بمراقبة الأسعار وقمع الغش، رمضانا بأسعار في متناول الفئات الهشة من المجتمع، فانتهى الشهر الفضيل على وقع أسعار خيالية جعلته أحد أغلى الأشهر في تاريخ الجزائر المستقلة.
وكان الأمل معقودا على أن تعود الأسعار إلى مستوياتها المعهودة بعد انقضاء الأيام الأولى من الشهر الفضيل، إلا أن العكس هو الذي تكرس، فقد واصلت الأسعار ارتفاعها في منحيات غير مسبوقة، أما المصالح المعنية بمراقبة السوق وضبط “جنون” المضاربين، فقد بقيت تتفرج على المشهد وهي عاجزة عن فعل ما يجب فعله.
هذا الواقع بتجلياته دفع بالمراقبين إلى التساؤل حول خلفيات عدم قدرة الجهات المخولة على ضبط حركية السوق المتفاقمة، فلا السلع المنتجة محليا كانت في متناول الجزائريين، ولا السلع المستوردة حافظت على استقرارها وانسجامها مع بورصة الأسعار في الأسواق العالمية.
وإن كانت بعض السلع المسقفة بقرارات حكومية (مثل السكر، الزيت) لم تطلها معضلة القفز على القانون لكونها مرتفعة أصلا، إلا أن سلع أخرى ورغم خضوعها لتسقيف الأسعار بمراسيم، إلا أن ذلك لم يحترم، والإشارة هنا إلى دقيق القمح الصلب واللين، وكل ما يعتمد على هذه المواد، مثل الخبز، الذي يعتبر الغذاء الأول للجزائريين.
غير أن الغرابة في المسألة، لا تكمن في السلع المحددة أسعارها بمراسيم، وإنما في سلع أخرى فصلية ومنتجة محليا، والتي يفترض أن تكون أسعارها معقولة، وهو الأمر الذي يحتّم طرح جملة من الأسئلة حول سبب ذلك.. هل الأمر يتعلق بندرة أدت إلى اختلال قاعدة العرض والطلب التي عادة ما تحدد الأسعار وفق منظومة حركية السوق؟ أم أن الأمر لا يتعلق بالندرة، بل بظاهرة الاحتكار التي تؤدي إلى المضاربة ومن ثم التهاب الأسعار؟
وإذا كان الأمر يتعلق بالندرة، والإشارة هنا إلى المنتجات الفلاحية، فالسؤال الذي يتعين طرحه على الحكومة وليس وزارة الفلاحة فحسب، هو أين الأموال التي صرفت من أجل النهوض بهذا القطاع على مدار سنين، في صورة الدعم الفلاحي، الذي التهم آلاف الملايير من الدينارات، ومع ذلك لم يحقق الأهداف المرجوة منه؟ والحديث هنا لا يتعلق بتحقيق الاكتفاء فقط، بل بالتصدير لأن ما تتوفر عليه البلاد من إمكانيات يفوق بكثير ما ينتج حاليا.
ولأن الكثير من المنتجات التي التهبت أسعارها فصلية، فهذا يرجح أن تكون فرضية المضاربة ويجعلها قائمة، وهو أمر يربطه المراقبون للسوق، بعدم توفر الحكومة على نظام صارم لمتابعة صيرورة المنتجات الفلاحية، ولا سيما ما تعلق بغرف التبريد التي تلعب دورا بارزا على هذا الصعيد، يضاف إلى ذلك عجز الحكومة على تجسيد المشاريع التي طرحتها منذ سنوات، فمنذ أن كان الهاشمي جعبوب وزيرا للتجارة، ونحن نسمع عن فتح أسواق جملة جديدة وأخرى جوارية، إلا أن تلك المشاريع لا تزال مجرد وعود، ولا شك أن تأخر مثل هذه المشاريع، يساعد على تفشي ظاهرتي الاحتكار والمضاربة، اللتان يعتبرهما الخبراء أكبر الأسباب المؤدية إلى التهاب الأسعار.
من جهة أخرى، البعض يتحجج بأن ارتفاع أسعار بعض السلع المستوردة، له علاقة بانهيار قيمة الدينار خلال الأشهر الأخيرة، غير أن هذا المبرر يبدو مجانبا للواقع، فالدينار تراجعت قيمته وهذا مؤكد، لكن ليس إلى المستويات التي يمكنها تبرير الغلاء المسجل في أسعار بعض السلع المستوردة، التي فاقت في بعض الأحيان الخمسين بالمائة.
لا شك أن الحكومة مطالبة اليوم بمراجعة منظومة آلياتها في قمع المضاربة والغش، فقد تبين من خلال وعودها أنها عاجزة عن فرض القانون، وهنا يجب عليها البحث عن مكمن الخلل، هل في الموارد البشرية المعنية بمحاربة الظاهرة؟ أم في النصوص القانونية؟ على الحكومة الإجابة على هذين السؤالين كي تصل إلى حل المشكلة من جذورها.

الخبير الاقتصادي كمال ديب لـ”الشروق”:
“الحكومة فشلت في ضبط الأسعار.. وللمواطن جزء من المسؤولية”

يرى الخبير الاقتصادي كمال ديب، أن الحل الوحيد للقضاء على ظاهرة التهاب الأسعار في بعض المناسبات ومنها شهر رمضان، يكمن في تخصيص الحكومة ميزانية خاصة لهذا الشهر الفضيل، توجه إلى إغراق السوق بالسلع من أجل القضاء على المضاربة، وأرجع الخبير الاقتصادي في الوقت ذاته التهاب الأسعار إلى المضاربة والاحتكار، فضلا عن تراجع قيمة الدينار إلى مستويات قياسية خلال العام المنصرم.

أسعار جنونية شهدها شهر رمضان هذا العام.. إلى ماذا ترجعون هذه الظاهرة؟

هناك العديد من الأسباب وراء ارتفاع أسعار السلع في رمضان من بينها انخفاض قيمة الدينار، الذي أثر بشكل مباشر على حركية الأسعار سواء ما تعلق بالمنتجات المحلية أو المستوردة، كما ساهم عامل آخر وهو “لهفة” الجزائريين التي ساهمت في ارتفاع نسبة الاستهلاك خلال هذا الشهر، وهي من بين العوامل التي ساهمت في الارتفاع الجنوني للأسعار، كما لا ننسى جشع التجار الذي يقابله دائما عجز الحكومة عن أداء دورها في ضبط السوق وغياب الأسواق الجوارية التي من شأنها القضاء على المضاربة.

رغم التطمينات التي قدمتها وزارة التجارة والمصالح المعنية بقمع الغش ومراقبة الأسعار، إلا أن ذلك لم يغير من واقع الأمر شيئا.. ماذا تقولون؟

في الحقيقة، الحكومة متعودة على تقديم التطمينات، وهذا ليس بالأمر الجديد، لكن هذه السنة وعلى غرار السنوات الماضية، فإن الأسعار خلال شهر رمضان استمرت في الارتفاع وهذا دليل آخر على أن التطمينات المقدمة من طرف وزارة التجارة وكافة الفاعلين في هذه العملية تبقى مجرد حبر على ورق، وبالتالي يجب ألا ننتظر أن يتغير الأمر، حيث ستستمر الأسعار في الارتفاع مادامت الحكومة لم تطرح حلولا جذرية للقضاء على هذه الظاهرة.

برأيكم، هل المشكل له علاقة بالندرة أم بالاحتكار أم بأمور أخرى؟

المعروف عن الندرة في الاقتصاد بشكل عام أنها تساهم في ارتفاع الأسعار، لكن عندما يتعلق الأمر بمواد واسعة الاستهلاك على الدولة أن تتدخل وتدعمها، خاصة في رمضان الذي يعتبر شهر الرحمة، حيث نرى العديد من الدول التي لا تدين بالإسلام تقوم باتخاذ تدابير خاصة وتقوم بتخفيض الأسعار، احتراما لمشاعر المسلمين، فهم يؤمنون بالنظرة الاجتماعية هذه الأخيرة التي تنعدم لدى تجارنا وحكومتنا التي لا تتوانى في كل مرة في إهانة الشعب عبر قفة رمضان التي تنعدم فيها أدنى حاجيات المواطن، والأسوأ من ذلك أنها تنهب من طرف بعض المسؤولين وتوزع بطريقة مسيئة.

يرجع البعض السبب إلى تراجع قيمة الدينار.. هل ذلك ينعكس أيضا حتى على السلع المنتجة محليا؟

نعم، تراجع قيمة الدينار يؤثر بشكل كبير على ارتفاع الأسعار، حيث توجد علاقة في الاقتصاد بين السلع المحلية والمستوردة، هذه الأخيرة التي تفرض عليها رسوم قبل دخولها للجزائر ويكون سعرها مرتفعا، وبالتالي يلجأ الجزائري للسلع المحلية التي يكثر عليها الطلب، وهنا يكون الارتفاع غير المبرر الذي يكون ضحيته دائما المواطن البسيط.

كيف السبيل إلى حماية الفئات الهشة في مثل هذه المناسبات؟

هناك العديد من الحلول للقضاء على هذه الظاهرة التي تنتشر بشكل كبير في شهر رمضان، من بينها أن تخصص الحكومة ميزانية خاصة للشهر الفضيل من أجل ضبط السوق وتوفير المنتجات للمواطنين وبأسعار معقولة للقضاء على المضاربة وإغراق الأسواق بالسلع الضرورية، وبالتالي سوف تغلق الأبواب في وجه التجار الجشعين الذين يستغلون مثل هذه المناسبات للربح السريع على حساب المواطن، بالإضافة إلى تفعيل الرقابة عن طريق الأجهزة الرسمية للدولة، والذهاب نحو فوترة جميع العلامات التجارية التي تدخل الجزائر، كما يجب على الدولة أيضا أن تسارع في تحديد الفئات الهشة المعنية بالدعم من أجل أن تكون المساعدة المقدمة من طرف الحكومة، موجهة لأصحابها الحقيقيين.

رئيس جمعية المستهلك مصطفى زبدي لـ”الشروق”:
التحجج بانهيار الدينار لتبرير الغلاء اسطوانة مشروخة

مصطفى زبدي

رفض مصطفى زبدي، رئيس جمعية حماية المستهلك، ربط المستويات التي وصلتها الأسعار خلال الشهر الفضيل، بانهيار أسعار الدينار التي مستويات غير مسبوقة، وأكد أن نسبة تراجع الدينار لم تصل إلى خمسين بالمائة من قيمته، في حين أن الأسعار ارتفعت في بعض السلع بنحو خمسين بالمائة، وهو ما يجعل القياس، برأي زبدي، غير مبرر وغير مقنع كما قال.

أسعار جنونية شهدها شهر رمضان هذا العام.. إلى ماذا ترجعون هذه الظاهرة؟

ظاهرة موسمية يمكن إرجاعها إلى جملة من الأسباب، أولها الجشع والرغبة في الربح السريع موازاة مع غياب أدوات ضبط السوق، في مقدمتها غياب أصول المعاملات التجارية في أسواق التجزئة، ناهيك عن تدخل عدة أطراف في العملية التسويقية لا علاقة لها بذلك تماما، كما أود أن أبرز غياب أرقام دقيقة لغرف التبريد على مستوى الوطن ونظام متابعة المنتجات، وهذه كلها أسباب تساهم في عدم استقرار الأسعار، وارتفاعها لمستويات قياسية في بعض المناسبات كشهر رمضان.
من جهة أخرى، يمكننا اعتبار غياب إستراتيجية وخطة واضحة للإنتاج الفلاحي وتصريف المنتجات، حتى لا يقع الفلاح في فائض المواد ويكون خاسرا في كل الحالات برمي وإتلاف المنتوج، وبالمقابل يجب أن نتطرق أيضا إلى غياب هامش ربح في المواد الأساسية الفلاحية.
كما يوجد عامل آخر وهو غياب الأسواق الجوارية، حيث باركنا سابقا شروع السلطات في حملة القضاء على الأسواق الموازية بالأحياء والشوارع، غير أنه لم يتم تحضير البدائل اللازمة، وهو ما ساهم في انفلات الأمور وتسجيل أسعارا قياسية.

ما تعليقكم على التطمينات التي قدمتها وزارة التجارة والمصالح المعنية بقمع الغش ومراقبة الأسعار والتي ذهبت أدراج الرياح؟

التدابير المتخذة من قبل وزارة التجارة قلّلت من التهاب الأسعار التي سجلت أعلى مستوياتها مع بداية شهر رمضان، لكن ولولا هذه الإجراءات لكانت الكارثة أكبر من ذلك، أما من حيث مراقبة سوق التجزئة، يجب أن نعرف أن الأسعار حرة، فمصالح الرقابة وقمع الغش لا يمكنها فعل أي إجراء عقابي، وعلى ذلك نطالب بتسقيف أسعار المواد الأساسية ولابد من ضبط هوامش الربح فيها.

هل المشكل له علاقة بالندرة أم بالاحتكار أم بأمور أخرى؟

يجب التأكيد على أن الاحتكار له دور كبير في التأثير على الأسعار في جميع بلدان العام، لاسيما عندما يتعلق الأمر ببعض المواد الواسعة الاستهلاك، فلو لم يعمد بعض المتعاملين إلى احتكار سلع معينة فكيف تظهر وترتفع أسعارها بشكل مخيف. لا شك أن عامل الاحتكار موجود ولا يمكن لأحد أن ينكره، لكنه لا يبرر المستويات التي وصلتها الأسعار.

البعض يرجع السبب إلى تراجع قيمة الدينار.. هل ذلك ينعكس أيضا حتى على السلع المنتجة محليا؟

هذه أسباب واهية يريدون إقناعنا بها، لا اعتقد أن بورصة الدينار انهارت 50 بالمائة حتى ترتفع الأسعار بنسبة 50 في المائة بين عشية وضحاها، فالمتتبع يلاحظ أن سعر بعض السلع والمنتجات يرتفع إلى مستوى أربع أو خمس مرات في أول أيام رمضان مقارنة مع سعرها قبل أسبوع، أما أن نتحجج بتراجع قيمة الدينار فهذا ربما ينطبق على المواد المستوردة التي تخضع للبورصة العالمية وتتأثر بتقلب وعدم استقرار الأسعار.

كيف السبيل لحماية الفئات الهشة في مثل هذه المناسبات؟

نحن نقول إنه توجد مساعدات اجتماعية من قبل الدول ولحسن الحظ أن الدولة حافظت على طابعها الاجتماعي وإلا لكانت كارثة حقيقية. الآن شهر رمضان انقضى، ويجب علينا التفكير حاليا في كيفية ضبط السوق وجعل قانون العرض والطلب هو المتحكم الوحيد في الأسعار تحسبا لما هو قادم من صدمات، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال القضاء على الاحتكار والمضاربة، مع انتهاج خطط واستراتجيات واضحة لتصريف المنتجات عبر مسار مضبوط ومعلوم من قبل الجهات الوصية.

مقالات ذات صلة